تعد وسائل التواصل الاجتماعى -بتطبيقاتها المختلفة- أكبر ثورة معلوماتية تشهدها البشرية، متفوقة بذلك على المطبعة (فى القرن الخامس عشر) وعلى الراديو (1934) اللذين أحدثا تطورات هائلة فى مجالى الاتصال والفكر الإنسانى.
وإذا كانت الشبكة المعلوماتية الدولية (شبكة الإنترنت العنكبوتية) قد بقيت فى الحيز الأمريكى (العسكرى/ الاستخباراتى) لنحو 30 سنة (منذ نهاية ستينيات القرن الماضى)؛ فإنها اقتحمت بيوت القارات كافة مع بداية القرن الحادى والعشرين، ثم صار بإمكان الأفراد حمل جهاز بحجم كف اليد ينقل ما يدور فى الدنيا قاطبة -بالصوت والصورة-، وقد تطور هذا الجهاز حتى حقق أسطورة «الفانوس السحرى» الذى كنا نشاهده -قديمًا- فى مقاطع تمثيلية خيالية.
فتحت «الإنترنت» المجال لتلاقح الأفكار، وتوالد الآراء، وكشفت حقائق، وفضحت أكاذيب ظلت مستترة لعقود وربما لقرون، وصارت تمثل خطرًا على الأنظمة المستبدة والحكومات المارقة، بعد ما وصلت إلى قاعدة جماهيرية لم تصلها وسيلة إعلامية من قبل، حتى الصحافة الغربية الصفراء (التابلويد الشعبية) فى أوج انتشارها، وحتى قنوات البث الفضائى التى حصدت أرقام مشاهدة فائقة فى وقت من الأوقات.
وأضافت «الإنترنت» أيضًا ميزات جديدة لم ترد على أذهان مديرى الوسائل القديمة؛ ما جعلها وسيلة أممية، باستطاعتها الوصول إلى معظم البشر دون حواجز أو انتقاء؛ إذ قرّبت المسافات حتى صار العالم -واقعيًّا- مثل قرية صغيرة، وبالمثل قرّبت الزمن، فليس لها دورية الصحف والمجلات التى كانت أخبارها تفسد لطول المكث، وليس لها أوقات بث محددة مثل القنوات التى تهمل أحداثًا جسامًا لعدم موافقتها لخريطة برامجها. والأهم أنها اهتمت بـ«الزبون»؛ فلم يعد مستخدم الإنترنت كقارئ الجريدة أو مستمع الراديو أو مشاهد التليفزيون، مجرد متلق، بل صار معدًّا ومنفِّذًا للرسالة الإعلامية وقد توافرت له أدوات التحرير والصياغة والتصوير والبث إلخ؛ فضلًا عن تفاعله مع رسائل الآخرين؛ فهو يعلق على المادة، ويعيد نشرها بالمشاركة، ويبدى الإعجاب بها أو الاستياء منها. وهى فى الوقت ذاته وسيلة عفوية ذات حرية واسعة، خالية من الحجر والرقابة -إلا ضمير المستخدم.
و«الإنترنت» بهذه الصورة هدية السماء للدعوة والدعاة، رغم مضارها التى لا تُخفى، وهذا ما أردت التنبيه إليه؛ فإنا إن استثمرنا المنافع وتفادينا المضار فقد ربحنا وغنمنا، وإن انجررنا إلى المضار فقد خسرنا وأسأنا إلى ديننا ودعوتنا، بل إن المستثمر الحقيقى لهذه الوسائل يستطيع علاج هذه المضار بسهولة -إن توافرت له العزيمة، وكان قدوة لرواد التواصل.
تتلخص مضار«الإنترنت» فى أنها «سوق عالمية» يُلقى فيها كل شىء، الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحسن والقبيح، فلا يستطيع أحدٌ أن يمنع أحدًا
من دخولها والعرض فيها؛ من ثم فهى -رغم هذه الفوضى- لا تخلو من مبتغاك مهما كان حلّه أو حرمته، بل ستجده أشكالاً وأنواعًا، قديمًا وحديثًا -وهذا كما يفيد الدعوة يضرها، فجانب الإباحية فى هذه السوق هو أروج الجوانب، ومرتادوه هم الأكبر عددًا والأكثر «تصفحًا»، وهناك جوانب لخصوم الدعوة يعرضون فيها بضاعتهم وينادون بخسران وبوار بضاعتك، وفى السوق أيضًا -مثل كل الأسواق- الجرائم بأنواعها، لكنها متطورة؛ بعدما تبدلت الظروف وزادت الإمكانات ولأن الأجواء كلها افتراضية؛ لذلك زاد النصب والتغرير والتزوير إلخ. والسوق لاتساعها فهى جاذبة للشباب -الذى هو عماد دعوتك- مضيعة لأوقاتهم، تمثل خطرًا على أخلاقهم، صارفة لهم عن الدعوة ومكارم الأخلاق.
لكن! يبقى الداعية الحصيف الذى يستغل هذا الفضاء الهائل فى حصد الفرص الدعوية، والاستعانة بالجهود المتاحة والتى لا تُحصى فى الوصول إلى أكبر عدد من المدعوين، وهدايتهم إلى طريق الله المستقيم، وألا يتخذ «الإنترنت» وسيلة للتكسُّب والمنافسة على نسب المشاهدة. ومفتاح النجاح فى هذا الأمر: القدوة؛ فإن مكانة الداعية الآن -وبعد هذه التطورات- تتوقف على إخلاصه وفهمه وحكمته، وكم سقط دعاة لما حسبوا أن المجال الفضائى كمجال المسجد أو المحاضرة، أو أن الأتباع هم الأتباع. إطلاقًا؛ فإن الفرص أمام المتلقى الآن متعددة، وهو يستطيع التحول بضربة زر إلى داعية آخر إن لم تتوافر فيك الخصال التى ذكرتها..
كن قدوة، ولا تنشغل بعدد أصدقائك ومتابعيك، ولا تخض مع الخائضين، وكم يؤسفنى أن إخوة -أعرفهم- تصدر منهم الكلمات التى لا ترضى الله ولا أصحاب الخلق، يجارون الشتامين اللعانين. إنك الآن تمثل دعوة قائدها محمد -صلى الله عليه وسلم- فَتَرقَ بالذوق العام، وانهضْ بالأخلاق، واجعل حواراتك هادفة خالية من الجفاء والفظاظة متحلية بالحكمة والحلم واللين. وكن دقيقًا مُجيدًا، مبدعًا فى عرض سلعتك مُستبصرًا بالمستجدات، مدركًا اختلاف هذه الوسيلة الجامعة عن وسائلك القديمة.
ما أكثر الدعاة على الإنترنت، وما أقل من يفيدون الدعوة، رغم وفرة المادة وكثرة المدعوين. لا نقول ينقصهم الإخلاص، إنما ينقصهم الفهم الذى هو أساس كل نجاح، وينقصهم التمييز بين ما كان بالأمس وما هو كائنٌ اليوم، وصدق القائل: «رحم الله رجلاً عرف زمانه فاستقامت طريقته.
أضف تعليقك