بقلم وائل قنديل
تعلم منظومة عبد الفتاح السيسي الأمنية أن الناشط السياسي، علاء عبد الفتاح، المعتقل لعدد من المرّات يصعب حصره، تعلم أنه ليس من النوع الذي يمكن كسره أو تطويعه بالإهانات وأعمال التنكيل والتعذيب.. وتعلم، كذلك، أن كل ما يحدُث له سوف يُنقل إلى الرأي العام في الخارج والداخل، بلمح البصر، عن طريق كتيبةٍ من المدونين الذين يتابعونه في محبسه لحظة بلحظة.
السؤال هنا: ماذا دار برأس الضابط الذي أقام حفل تعذيب مادي ونفسي بحق علاء عبد الفتاح، وصلت إلى مرحلةٍ أكثر انحطاطًا في الغل والخسّة عما سبق؟ ولماذا قرّر أن يهبط بسادّيته وتوحشه إلى مرحلة تجريد الناشط الشاب من ملابسه، وضربه ضربًا مبرّحًا، قبل أن يأخذوه إلى النيابة، وهم يعلمون أنه لن يسكت، وسيقول كل شيء، وما سيقوله سينتشر قبل أن يعودوا به إلى السجن؟.
مؤكدٌ أنهم اختبروا صلابة علاء عبد الفتاح أكثر من مرّة، ويدركون جيدًا أن جميع أساليب بطشهم وتنكيلهم به لا تحقق أي نتائج، كما جرى في نوفمبر/ تشرين ثاني 2011 عقب مذبحة ماسبيرو، حين لفّقوا له تهمة اختطاف مدرعةٍ عسكريةٍ واستخدامها في دهس المتظاهرين المسيحيين أمام مبنى التلفزيون المصري، ثم راحوا يقايضونه ويساومونه: السكوت مقابل إقفال الملف وإطلاق سراحه، ليستقبل العيد مع طفله الذي ولد وهو في السجن.
قلت وقتها "كان أمام علاء عبد الفتاح وأسرته أن يقبلوا المقايضة، ويرضخوا للصفقة، بأن يشترى علاء حريته لقاء صمته، غير أنه، ولأنه علاء نجل أحمد سيف، سخر من الصفقة، إدراكا منه بأن الحرية ليست سلعة، يمكن أن تتجزأ، وأنه فى اللحظة التى تتنازل فيها عن حريتك فى الكلام والتعبير، لا يمكن أن تستمتع بحرية الحركة، وأن الدنيا بما فيها لا تساوى السكوت الإجبارى.
ويقينا لم يفكر علاء فى العرض قبل أن يرفضه، لأنه يوقن بأنه لن يستطيع النظر إلى وجهه في المرآة إن هو خرج من محبسه بهذه الطريقة، غير أنه فى اللحظة التي تسامى فيها على منطق الصفقة، لا بد أنه رأى زنزانته تتسع وتمتد وتتعاظم كأنها البراح كله، وتحوّل فى لمح البصر من سجين إلى حر إلى آخر حدود الحرية، فيما سجن سجانوه أنفسهم فى قبو الصفقة المعتم".
وهذه المرة، مثل سابقاتها، يدركون أن رد الفعل لن يكون مختلفًا، إلا أنهم أرادوا من خلاله ترميم وتعلية جدار الخوف الذي انشرخ وتهاوى مع مشروع محمد علي، الذي أعاد الجماهير إلى الصورة، وأيقظ روح التحدّي والمقاومة، التي ظنوا أنها أزهقت وتلاشت بتأثير الجرائم والمذابح المروّعة التي أرادوا بها إيجاد نوعٍ من الردع الذاتي يسجن الناس في خوفهم وسكونهم.
تلك المعادلة التي تحدّث عنها شهيد الكلمة والموقف، أحمد سيف عبد الفتاح، والد علاء عقب أم المجازر رابعة العدوية، إذ ذهب، في توصيفه مذبحة رابعة، إلى أنهم قصدوا منها الإجهاز على وزن الجماهير ودورها قوة محرّكة في العمل السياسي في المستقبل، وهو ما ستدفع ثمنه كل القوى السياسية، وليس فقط جماعة الإخوان المسلمين.
وكما كانت "رابعة" استخدامًا مجنونًا للقوة المفرطة من أجل مصادرة أي عمل جماهيري في المستقبل، يأتي هذا الجنون الباطش في التنكيل بعلاء عبد الفتاح، بقصد إعادة توجيه الرسالة إلى الجمهور والنشطاء، بأن من يفكّر في الاعتراض أو المعارضة، أو يعبّر عن أشواق للثورة والتغيير، سيلقى أشد صور التعذيب، وربما القتل بدم بارد، وها هو شخصٌ بشهرة علاء، داخليًا وخارجيًا، تفعل به الأفاعيل، فما بالكم بمن لا يتحدّث عنهم أو يتذكرهم أحد.
وما حدث مع علاء عبد الفتاح يحدث مثله وأبشع مع آخرين بالآلاف، ومنهم أسماء معروفة في المجتمع، إذ يجري التنكيل والتعذيب بالحرمان من العلاج والهواء مع أحد شيوخ القضاء، المستشار محمود الخضيري، وهو في العقد الثامن، ومع وزير سابق للعدل، هو المستشار أحمد سليمان الذي يستقبل عامه السبعين في زنزانته، ويحدث مع عائشة خيرت الشاطر التي تتعرّض للقتل البطئ، من دون أن يتمكّن ذووها من زيارتها في السجن، وغير هؤلاء كثيرون، يعانون داخل سجنين: سجن الزنزانة وسجن الاعتياد حتى النسيان، وهو أشد وطأة وقسوة.
تذكّروهم وتحدّثوا عنهم كل يوم، ودافعوا عن حقهم في الحرية، كما كان يقول والد علاء عبد الفتاح، حين سئل هل ستخلد للراحة بعد الحصول على الحرية لابنك، فيرد "دي مش بس شغلتي، دي سبب وجودي، سبب آدميتي .. ممكن أتوقف عن ده لو حصل لي عجز نتيجة مرض القلب أو أي حاجة من دي".
ذلك هو جوهر الموضوع: الآدمية، طريقًا وغاية.
أضف تعليقك