بقلم د. جمال نصار
تمر الأمة العربية والإسلامية بمنعطفات وانكسارات عديدة، نتيجة لحالة الضعف والهوان الذي أصاب الجميع، والسبب الأكبر في ذلك، تلك الأنظمة المستبدة التي استسلمت لأعدائها، وأهانت شعوبها، وسلبت مقدراتها؛ من أجل أن تبقى لفترة أطول على تلك الكراسي الفانية التي غيّرت الجميع، وجعلتهم يقتلون شعوبهم ويكيدون لهم، وأصبحوا كما قال الشاعر "عمران بن حطان" أيام الحجاج بن يوسف الثقفي:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس تركت مدابره كأمس الدابر
إن أدق تشخيص لحال أمتنا اليوم، كما أشار أحد الكتاب المعاصرين، هو أننا مصابون بما يشبه الشلل المعنوي والفكري، في جميع أجهزتنا الأخلاقية، وملكاتنا النفسية، ومواهبنا الشخصية، وطاقاتنا العقلية، والعملية والعلمية، وكذا الاقتصادية والعددية، والروحية.
هذا الواقع الأليم صنعه الاستعمار من قبل؛ بغرس تلك الأنظمة المستبدة، والحُكاّم الخانعين لهم، التابعين والمنفذين لأوامرهم، واستخدموا في ذلك كل الوسائل لتمكينهم من السيطرة على الشعوب، إما بانقلابات عسكرية صُنعت على أعينهم، أو بدعاوى الديمقراطية المصطنعة، التي إن أتت بمن يخالفهم أو يقف ضد مؤامراتهم؛ يوعزون إلى عملائهم بتدبير القلاقل والاضطرابات، لكي تكون ديمقراطية تتناسب مع مصالحهم وأهوائهم!
ترامب وتسخير الأنظمة العربية لتحقيق طموحاته
في الحقيقة، لا يستطيع أي إنسان منصف أن ينكر ما يقوم به ترامب لمصلحة الشعب الأمريكي، على الرغم من عنصرية هذا الرجل، وفجاجة تصرفاته تجاه العرب والمسلمين، وأحاديثه التي يُسيء فيها لكل من يخالف رأيه أو ينتقده، إلا أنه استطاع في وقت قياسي تحقيق كل ما وعد به في حملته الانتخابية على عدة مستويات:
فمنذ وصوله إلى الحكم سعى ترامب إلى تحسين الواقع الاقتصادي لبلاده من خلال خطوات؛ أبرزها ما يتباهى به كثيرا من جلب مئات المليارات من الاستثمارات من دول عربية غنية، ومطالبتها بالمزيد لحمايتها، وكان ذلك ولا يزال واضحا في تعامله مع السعودية وباقي دول الخليج.
كما سخّر بعض الدول لتكون المفتاح الرئيسي للمنطقة، بتأكيده تعاونه التام مع السيسي، ووصفه بأنه رجل شجاع، لسعيه المستمر لخدمة "إسرائيل"، ولكي يكون وسيلته أيضا في ترتيب الأوضاع في ليبيا، بالتعاون مع المُنقلب خليفة حفتر. وفي كل ذلك يساهم بشكل أو بآخر في وأد الديمقراطية التي نشأت في المنطقة العربية بعد الثورات العربية، وذلك من أجل تأمين مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وحفظ الأمن الكامل لإسرائيل.
كما فرض حظر السفر على مواطني دول مسلمة، الذي أقرته المحكمة الأمريكية العليا بعد معارك قضائية طويلة، ووصلت حربه إلى وسائل الإعلام، ورفع شعار أمريكا أولا، مما جعله يلجأ إلى اتخاذ قرارات خارجية مدوية، ولا سيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط. وأبرز هذه القرارات: نقل السفارة الأمريكية في "إسرائيل" إلى القدس، والانسحاب من اليونيسكو بذريعة معاداتها لإسرائيل، والتحضير لما يُسمى بصفقة القرن، فجمع العديد من الدول العربية في البحرين تحت مُسمى "ورشة المنامة"، بترتيب من زوج ابنته "كوشنير"، الفتى المُدلل في البيت البيض ذي الأصول اليهودية.
كما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، لكنه لم يستطع إلغاءه، بسبب تأكيد الاتحاد الأوروبي التزامه به، وانسحب أيضا من اتفاقات عدة أبرزها اتفاق باريس للمناخ، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، كما أعاد صياغة اتفاقية نافتا التجارية مع المكسيك.
كل ذلك باستخدام المال الخليجي، رغبة ورهبة، وتركيع الأنظمة العربية لتحقيق رغباته وطموحاته، والتمكين لإسرائيل في المنطقة العربية، مع سرعة الهرولة للتطبيع معها، وتقديم مصلحة الشعب الأمريكي على كل شعوب العالم.
وهذا الواقع الذي تعيشه الأنظمة العربية يمثله قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيـا ولكن لا حياة لمـن تنادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرماد
الأنظمة العربية تنْصر الظالم على المظلوم في الصين
على الجهة المقابلة، نجد الموقف المُخزي الداعم لبكين، ضد مسلمي الأويغور العُزّل، فعلى الرغم من التطهير العرقي الذي تمارسه الصين ضدهم منذ سنوات، ومحاولاتها الدؤوبة لتغيير عقيدة المسلمين، بشن حملات قمع ضدهم، واعتقال مئات الآلاف منهم، وخصوصا العلماء، إلا أننا نجد الأنظمة في العالم العربي والإسلامي لا تتحرك تجاه هذه القضية بالشكل المطلوب، وكأنهم ليسوا منّا ولسنا منهم، بل تحركاتهم لا تكون إلا دعما للصين!
وكانت الفجيعة الكبرى في الأيام السابقة، وتحديدا يوم 12 تموز/ يوليو 2019 بأن أقدمت 37 دولة بينها سبع دول عربية، على توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة تُدعِّم فيها سياسة بكين تجاه الأقليات في منطقة "شينجيانغ" بشمال البلاد، حيث يُشكِّل المسلمون فيها أكثر من نصف السكان. وللأسف، كانت هذه الرسالة ردا على رسالة وُجهت من 22 دولة تهاجم فيها سياسة الصين المتغطرسة تجاه المسلمين.
والغريب أن هذه الدول التي أيّدت ظلم وقهر الصين للمسلمين؛ بررت جريمتها بأن الصين تواجه التحدي الخطير المتمثل في الإرهاب والتطرف، وأن الأمن عاد إلى "شينجيانغ"، وأن هناك حفاظا على حقوق الإنسان الأساسية للأشخاص من جميع الجماعات العرقية في الإقليم، وأشادت بما وصفته بإنجازات الصين الملحوظة في مجال حقوق الإنسان!
هذه الأنظمة الخانعة هي ذاتها التي تركع لترامب وأمثاله، ولا تستطيع أن تقف في وجه طموحاته وطلباته، إلى أن أصبح كل واحد منهم يتباهى بعلاقاته القوية والمشبوهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتطبيع الفج والمباشر والرخيص مع الكيان الصهيوني، ضد مصلحة الشعوب، والرغبة في التغيير.
وهؤلاء ينطبق عليهم قول المتنبي:
أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم يا أمة ضحكتْ من جهلها الأمم
وهنا يسخر المتنبي من أهل مصر في عصره، ممن كانوا يتمسكون بالأعراض في الدين دون الجوهر.
السبيل لمواجهة هذه الأنظمة المستبدة
مع تسارع الأحداث والمستجدات في العالمين العربي والإسلامي، نجد الأنظمة العربية تتسابق لإرضاء ترامب، وتسير بسرعة فائقة للتطبيع مع "إسرائيل" ودعمها بكل الوسائل. وأبرز مثال على ذلك ما يقوم به الثالوث "محمد بن زايد، والسيسي، ومحمد بن سلمان" في تقديم كل العون والمساعدة للكيان الصهيوني، ومحاربة الشعوب التي تسعى لتحقيق آمالها في الحرية والكرامة.
أقول: لا بد من السعي لتغيير هذه المعادلة الظالمة التي تقهر الشعوب، وتستولي على مقدّراتها؛ بالسعي بكل الوسائل المتاحة لمواجهة تلك الطُغمة الحاكمة، وخصوصا العسكر، فلا أمل إلا في وعي الشعوب بحقيقة تلك التحديات والمؤامرات التي تحاك في الخفاء والعلن، ضد كل من يرغب في التحرر من هذه الأنظمة المستبدة.
فالعسكر لا أمن ولا أمان معهم، ولعل ما حدث في مصر من خيانة السيسي للأمانة، بالانقلاب على رئيسه، المنتخب ديمقراطيا لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، والإعداد لذلك بوقت كاف.
ويظهر ذلك، أيضا، من طريقة تعامل المجلس العسكري في السودان مع قوى الحرية والتغيير، والحرص على حصانة المجلس السيادي، في الفترة الانتقالية، من الملاحقة الجنائية، وهذا يشير ويؤكد ارتكابهم جرائم إنسانية ضد الشعب السوداني.
أقول، إن أول الطريق الوقوف ضد هذه الطُغمة العسكرية الحاكمة في المنطقة العربية، بكل الوسائل الممكنة، وخصوصا في كل من مصر والسودان والجزائر، ولن تنال هذه الشعوب حريتها وكرامتها، إلا بعد إزاحة العسكر من المشهد السياسي، وأي عمل دون ذلك سيقضي على كل دعوات التحرر والتغيير، وأي تقرّب من تلك الأنظمة الفاسدة، ستكون عاقبته وخيمة.
أضف تعليقك