• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: قطب العربي

ليس من قبيل المبالغة وصف الرئيس الشهيد محمد مرسي بأنه أسطورة السياسة المصرية، فقد ظل العسكر يحكمون مصر على مدى أكثر من 65 عاما، صنعوا خلالها "تابوهات" مثل أحقيتهم التامة في حكم مصر لا ينازعهم فيها أي مدني، وقد حطم وصول مرسي إلى مقعد الرئاسة هذه "التابوهات" بعد منافسة انتخابية شرسة ونزيهة شارك فيها 13 مرشحا نصفهم على الأقل من الوزن الثقيل كما أن منهم 3 مرشحين عسكريين.

لا تقتصر أسطورة مرسي على انتزاعه مقعد الرئاسة من بين أنياب العسكر رغم أنه كان مرشحا احتياطيا، ولكن لقدرته على الاستمرار في الحكم لمدة عام كامل رغم كل المؤامرات التي حيكت ضده، واستخدمت فيها كل إمكانيات الدولة العميقة منذ أول يوم لوصوله إلى قصر الاتحادية، وأغلب الظن أن أي شخص آخر غير مرسي ربما لم يكن ليتمكن من البقاء في تلك "الغابة" أكثر من شهر أو شهرين إلا إذا سلم زمام نفسه تماما للجنرالات الذين يرون مصر عزبتهم الخاصة.

شخصيته الصارمة:

حين ترشح الدكتور محمد مرسي لرئاسة الجمهورية بعد رفض لجنة الانتخابات أوراق المهندس خيرت الشاطر كنت شخصيا استشعر الخطر لمعرفتي بشخصيته الصارمة، كنت أشعر أن تلك التركيبة الشخصية ستدخل الرئيس مرسي في صدامات دائمة مع الجميع، لكننا وجدناه شخصا مختلفا بعد وصوله إلى القصر الجمهوري، هادئا، مسالما، راغبا في الحوار مع الجميع، ساكتا عما يتعرض له من بذاءات عبر وسائل الإعلام حتى اتهمه الكثيرون بالضعف، في حين فسر آخرون موقفه بافتقاده لأدوات القوة التي تتركز في الجيش والشرطة وهما لم يكونا طوع إرادته، لكن نسي البعض أن هذا الرئيس هو الذي ألغى الإعلان الدستوري المكمل (المكبل) الذي أصدره المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية ليكبل به سلطة الرئيس القادم إن كان من خارج المؤسسة العسكرية ..

ولا ننسى أن هذا الرئيس هو الذي عزل طنطاوي نفسه ونائبه سامي عنان، وغالبية أعضاء المجلس العسكري بعد شهرين فقط من توليه الرئاسة، وعقابا لهم على فشلهم الأمني في سيناء، ولا ننسى أن هذا الرئيس هو الذي أصدر إعلانا دستوريا حافظ بمقتضاه على الجمعية التأسيسية للدستور حتى أنجزت مهمتها التي سعى البعض لتعطيلها، وحافظ به على مجلس الشورى الذي كان مهددا بالحل من قبل المحكمة الدستورية (إحدى أدوات الثورة المضادة التي حلت مجلس الشعب دون مقتضى)، وتمكن بموجبه أيضا من تنفيذ احد مطالب الثورة بعزل النائب العام عبد المجيد محمود حتى وإن أضطر لاحقا لإعادته تخفيفا للاحتقان والاستقطاب ..

وحين تصدى مرسي لمشكلة سد النهضة فإنه لوح بالحرب وتدمير السد كما أكد أن نقص أي قطرة من حصة مصر في المياه سيقابلها نقطة دم منه شخصيا.

ورغم أن الدكتور مرسي كان نائبا متميزا في برلمان 2000، إلا أنه غاب نسبيا عن الحياة العامة بعد خروجه من البرلمان مكتفيا بعضوية مكتب الإرشاد وإدارته للملف السياسي  لجماعة الإخوان وهو أمر تنظيمي داخلي لا يعرفه الكثير من الناس، لكن تلك الإدارة هي التي ساهمت في إيصال 88 نائبا للجماعة في انتخابات 2005، وهي التي ساهمت في إقناع الإخوان بالمشاركة في ثورة 25 يناير، وإذا لم يكن عموم المواطنين يعرفون دور مرسي في تلك الفترة فإن أجهزة الأمن كانت تعرف لذا بادرت بالقبض عليه مع بعض أعضاء مكتب الإرشاد الآخرين ليلة 26 يناير حين اتخذ المكتب قرارا بالمشاركة الكاملة في جمعة الغضب بعد المشاركة الجزئية يوم 25 يناير.

الصقر:

حين تولى مرسي رئاسة حزب الحرية والعدالة عقب تأسيسه، وحين شارك في بعض جلسات القوى السياسية مع المجلس العسكري كان هو دوما "صقر" تلك اللقاءات الذي يتمكن دوما من فرض مطالبه على المجلس، بينما كانت فرائص بعض المشاركين في تلك الاجتماعات ترتعد خوفا من غضب الجنرالات، وحين استبعدت لجنة الانتخابات أوراق المرشح خيرت الشاطر لم يستنكف الدكتور مرسي عن تقديم أوراقه رغم الدعاية السوداء التي وصفته بـ"بالمرشح الاستبن"، ورغم أن بعض الإعلاميين بالغ في سخريته بوضع إطار سيارة أمامه على الطاولة في الاستوديو كدلالة على فكرة "الاستبن"، وواجه مرسي كل هذه الدعايات السوداء بعزيمة صلبة، ولم يتوقف عند تلك الصغائر التي أرادت إسقاطه في الانتخابات..

كما أنه -ومن ورائه حزبه وجماعته - تمكن من مواجهة المؤامرة المبكرة على إرادة الشعب حين تلكأت اللجنة العليا للانتخابات في إعلان النتيجة بناء على تعليمات ومشاورات مع المجلس العسكري بهدف الترتيب لإعلان فوز المرشح المنافس الفريق أحمد شفيق لكن حملة مرسي كانت أكثر ذكاء فسارعت بإعلان النتيجة فجرا بعد أن اكتملت لديها محاضر الفرز في اللجان الفرعية، وكانت الحملة التي شرفت بعضويتها كما شرفت بالتوصية بإعلان النتيجة في ذاك الوقت المبكر تدرك أن حملة المرشح المنافس ستعلن نتيجة كاذبة صباح اليوم التالي، خاصة أن قوات من الحرس الجمهوري تحركت إلى منزل الفريق أحمد شفيق لحمايته فعلا باعتباره الرئيس القادم، وقد أبطلت حملة مرسي تلك المؤامرة مبكرا، وكان أول قسم للرئيس في ميدان التحرير وسط الثوار، تأكيدا لولائه وانتمائه لتلك الثورة.

أسطورة مرسي لم تتوقف عند فترة العام الذي قضاه في الحكم وسط تلك الأنواء، ولكنها تمثلت أيضا في صموده اللا محدود عقب الانقلاب عليه يوم 3 يوليو 2013، إذ عمد الانقلابيون ومن شايعهم من قوى محلية وإقليمية ودولية إلى محاولة كسره وإجباره على التنازل عن شرعيته، وحين ذهبت إليه كاترين أشتون مفوضة الاتحاد الأوربي في محبسه المجهول عقب الانقلاب لتخبره أن أنصاره انفضوا عنه، وأن المعتصمين في رابعة لا يزيدون عن 5 آلاف، رد عليها "لو كان كلامك صحيحا ما جئت إلى هنا"، وعلى مدار ست سنوات من حبس انفرادي، لم يسمح لمرسي بلقاء أسرته سوى 4 مرات لمدة عشرين دقيقة على الأكثر كل مرة، كما حرم من الدواء والغذاء، بهدف تركيعه، ودفعه للاستسلام، لكنه كان يؤكد كلما أتيحت له الفرصة على ثباته وصموده رغم ما يتعرض له من ضغوط، ونبه المحكمة لها أكثر من مرة، وكان هذا الصمود مصدر إلهام لكل أنصار الحرية داخل السجون وخارجها.

شرعية الرئيس:

منذ اللحظة الأولى للانقلاب أيضا وفي آخر خطاب متلفز له أعلن الرئيس مرسي تمسكه بالشرعية بصيغ عديدة دفعت البعض لوصف ذلك الخطاب بخطاب الشرعية، وقال كلمته المشهورة إن حياته هي ثمن الدفاع عن الشرعية، لم يكن الرجل يمزح، أو يطلق وعودا جوفاء، بل كان يعني ما يقول لأنه يعرف المآلات، وقد صدق الرئيس في وعده، ودفع في النهاية حياته ثمنا للدفاع عن الشرعية التي لم تكن تخصه شخصيا بل كانت تجسيدا لإرادة الشعب المصري التي عبر عنها بكامل حريته في أول وآخر انتخابات رئاسية نزيهة تشهدها مصر.

ظل الرئيس متمسكا بشرعيته، وأكد ذلك مرات عديدة أمام المحاكم التي تحاكمه وهي غير مختصة، وظل أنصار الرئيس متمسكون بشرعيته التي صورها البعض -على غير الحقيقة- كعقبة أمام وحدة أو اصطفاف القوى الثورية، وتعرض الرئيس وأنصاره لضغوط كثيرة من العدو والصديق للتنازل عن تلك الشرعية دون جدوى حتى سقط الرئيس شهيدا في ساحة الدفاع عن إرادة الشعب، سقط منتصب القامة مرفوع الهامة لم يبدل أو يستسلم، أو ينزل على رأي الفسدة أو يعطي الدنية في دينه أو وطنه أوشرعيته ، فكانت ميتة تليق به ويليق بها، وترك الفخر لأنصاره من بعده.

كان مرسي بشرا أخطأ وأصاب، لكنه كان دوما مخيفا للطغمة الانقلابية التي وضعته في حبس انفرادي، وحاكمته خلف قفص زجاجي كاتم للصوت حتى لا يصل صوته إلى الشعب، وألبسته "بدلة الإعدام" لوقت طويل، وحرمته من حقه الطبيعي في الحديث للمحكمة عن أسرار خاصة وضغوطات يتعرض لها، وظل الخوف يلازم هذه الطغمة حتى بعد وفاته، فأمرت بدفنه ليلا دون السماح بجنازة شعبية تعلم أنها كانت ستصبح استفتاء جديدا على شعبيته، ألم أقل لكم إنه كان أسطورة السياسة المصرية دون مبالغة؟!!

 

أضف تعليقك