بقلم: عبد الرحمن يوسف
ما أكثر العِبَر، وما أقل المعتبرين!
كتاب الثورة المصرية مفتوح للمعتبرين، ولا أحد يريد أن يقرأه!
كان كتابا مذاعا على الهواء مباشرة.. إنها أعوام مشحونة بآلاف العظات، كتاب الثورة المصرية الممتد، بكل ما فيه من آلام وآمال، وبكل ما فيه من عناء ودماء، وبكل ما فيه من انتصارات وانكسارات.
في مصر أوحى العساكر للإخوان المسلمين أنهم حلفاؤهم من دون الليبراليين، تماما كما يفعل عسكر السودان اليوم مع الشيوعيين السودانيين، وفي النهاية لا هدف للعساكر سوى أن يأكلوا الجميع.
تصدر مجموعة من "غير الإسلاميين" للحراك السوداني ودعواتهم لاستئصال "الكيزان"، وتعميمات بعض متطرفيهم بضرورة القضاء على التيار الإسلامي كله، والتصريحات العلنية المضادة للشريعة، كل ذلك دعوة صريحة للتيار الإسلامي للتحرك وفق أجندات خاصة بالتيار الإسلامي فقط، ولعل المسيرة التي خرجت يوم الجمعة الماضية مطالبة بالحفاظ على الشريعة ورافضة اتفاق المجلس العسكري مع قوى التغيير؛ هي باكورة التحركات الاستقطابية العلنية.
مشاركة غالبية مكونات التيار الإسلامي في مشهد الثورة السودانية أمر لا خلاف عليه، وإنكار ذلك أو تجاهله ليس سوى دعوة مجانية لاستقطاب سياسي يسهل اختطاف الثورة داخليا وإقليميا.
* * *
إن المؤامرة (الإقليمية) على الثورة السودانية أوضح من أن توضح، والغريب أن بعض مكونات الحراك الثوري تسهل مهمة التدخل الإقليمي، فبدلا من توحيد الصف الثوري نرى البعض يصر على إثارة قضايا أيديولوجية لا محل لها من الثورة، والبعض يمارس نهجا إقصائيا يؤدي إلى تفتيت الصف، وتسهيل القضاء على الجميع.
لقد حدث هذا في مصر، بدأ الإسلاميون بالتقارب مع العسكر، وفي النهاية كان مصيرهم معروفا، وأصبحت مصر مجرد بيدق في رقعة شطرنج يحركه تارة الإمارات أو السعودية أو إسرائيل أو أمريكا، فلا الشريعة حكمت، ولا الدولة المدنية تحققت، بل أصبحت مصر تحت حكم فاشية عسكرية على رأسها عميل إسرائيلي لا يخجل من عمالته.
اقرأوا كتاب الثورة المصرية يا قوم.. فوالله إن فيه لعبرا تغنيكم عن كثير مما أنتم فيه اليوم.
* * *
يظن البعض أن السودان في انتظار "سيسي" جديد، وهذا احتمال، ولكنه في رأيي احتمال مرجوح، والاحتمال الراجح أن السودان (إذا لم ينتبه الشعب لما يحاك) سيكون في انتظار "حفتر" سوداني!
إن تكوين السودان القبلي، والنعرات التي يمكن تغذيتها بين مناطق السودان المختلفة، ووجود أكثر من مؤسسة تحمل السلاح (الجيش، وقوات الدعم السريع، وما خفي أعظم)، والوضع الاقتصادي المزري الذي تمر به البلاد، سيجعل السودان اليوم عرضة للابتزاز الإقليمي الذي قد يؤدي في النهاية إلى حرب أهلية، أو إلى تفتيت البلاد.
إن وجود قوات للجيش السوداني خارج حدود البلاد يجعل التدخلات الإقليمية تتسم بخشونة أكبر، واستمرار هذه القوات في موقعها ليس سوى إجهاض للثورة، وسحب هذه القوات سيكون بمثابة إعلان حرب مبكر على حلف الثورة المضادة.
هذه التحديات الكبيرة لا يمكن أن تخاض بميدان منقسم على نفسه، وبثوار يعير بعضهم بعضا بأنهم "كيزان" أو "شيوعيون".
هذه التحديات تحتاج إلى قيادة تستطيع أن تستثمر هذا الحراك الجماهيري العظيم، لتحقيق تحول ديمقراطي، واستقلال وطني، وإلا فالبديل سيكون أسوأ مما يظن الجميع.
إن النخب السودانية اليوم لا بد أن تكون عند حسن ظن الأمة، ليس الأمة السودانية فحسب، بل الأمر أكبر؛ لأن نجاح التجربة سيؤثر على الإقليم كله، والعكس بالعكس أيضا.
* * *
قد يلوم البعض الكاتب على لغته الحادة، أو لهجته المتشائمة، ولكن.. هذا حال الشعراء دوما، ولعل هذه اللهجة تسمع بعض الذين يظنون أن في الأمر فسحة، وأن مساحة المناورة كبيرة، ذلك أن نشوة الانتصارات الكبيرة تعمي العين عن رؤية التحديات المتتالية.
هذا ما حدث لنا في مصر، حين نجحنا في خلع مبارك أعمانا حجم الانتصار عن رؤية كثير مما يحاك في الظلام.. لم نكن نتوقع أن هذا الانتصار الكبير ليس إلا خطوة صغيرة جدا في مسيرة صعبة، وحين ظهرت لنا تلك المؤامرات لم يكن من الممكن مواجهاتها بكفاءة، بعد أن أصبح رفقاء الميدان أعداء يرمي بعضهم بعضا بأبشع الاتهامات، ويحمل بعضهم البعض نتيجة الدماء التي سالت، والأعراض التي انتهكت، والفرص التي أهدرت.
* * *
كلمتي الأخيرة... أوجهها للذين سيقولون "لا تتحدث في الشأن السوداني، أنت لست سودانيا، ولا تعرف تعقيدات المشهد السوداني ... والخ... الخ"!
أقول: بالنسبة لي لا مجال لهذه الحساسيات، حبنا للسودان وأهله هو ما يدفعنا إلى الجهر بمثل هذه النصائح، والله وحده يشهد أننا لا نتحدث من منطق التعالي أو التعالم، بل نتحدث بلغة "النذير العريان" كما قالت العرب. إننا نصرخ في كل إخوتنا العرب، ونرفع أصواتنا لكل الشعوب التي بدأت مسيرة التغيير... لا تسقطوا في الحفرة التي سقطنا فيها!
ولا أظن أن هناك عاقلا يرى في ذلك عيبا!
نقول ذلك لإخوتنا في السودان، وفي ليبيا، وفي اليمن، وفي الجزائر وفي كل مكان... نقول ذلك بكل تواضع، فإن أصبنا فبها ونعمت، وإن أخطأنا فمن أنفسنا!
أضف تعليقك