بقلم.. عامر عبد المنعم
الثورات العربية تتعرض للفشل من داخلها وليس فقط بسبب القوى الخارجية المتربصة والدوائر التابعة لها في الداخل، ويبدو أن الدرس من تعثر الموجة الأولى للثورات لم يكن واضحا بشكل كاف؛ فنرى تكرار ذات المواقف من القوى والتيارات التي تريد استبدال نظام مستبد بنظام مستبد آخر، ولكن بلون جديد ظاهره المدنية باسم الشعب وباطنه ديكتاتورية محمية عسكريا.
هذه التيارات التي ترفض الانتخابات هي التي تمنع الشعب من إعادة بناء النظام السياسي الجديد بالطرق المتعارف عليها في كل العالم، وتريد أن تحتكر السلطة وتطلب من العسكريين تسليمهم الحكم والعمل لخدمتهم للقضاء على خصومهم.
هذه التيارات الإقصائية هي التي أفسدت الثورة المصرية، وافتعلت حربا على الهوية المستقرة، ورفضت الانتخابات لبناء أسس وقواعد النظام السياسي الجديد، وفتحتوا أبواب الجدل باختراع شعار "الدستور أولا" لمنع الانتخابات، وعندما فاز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة انقلبوا على التجربة وشاركوا في الانقلاب على أول رئيس منتخب.
ظنت هذه التيارات المعادية للحرية أن الجيش الذي أزاح الإسلاميين الذين جاءوا بالصندوق سيسلمهم الحكم ويوزع عليهم المناصب، ويسكنهم في مفاصل السلطة، ويعطيهم الدولة، فأيدوا كل الانتهاكات والعصف بالحريات، لكن عندما لم يأخذوا ما تمنوه وبدأت رحى القمع تطالهم انقلبوا على السلطة، ولكن ماذا يفيد البكاء على اللبن المسكوب.
هذه الكارثة التي بددت حلم المصريين تتكرر الآن في السودان، حيث تسير تيارات معادية للإسلاميين في ذات الطريق الذي أفسد ثورة مصر، بل تردد هذه التيارات خطابا أكثر عدوانية يتسم بالتعميم ضد كل الإسلاميين رغم إن الخارجين على عمر البشير من الإسلاميين أكثر بكثير من الذين استمروا معه حتى النهاية، وهذا الخطاب العدواني تسبب في رد فعل إسلامي مضاد في الشارع السوداني.
المعركة في السودان بين تيارين، الأول: المجلس العسكري المدعوم من قوى خارجية والثاني: تجمع المهنيين الذي يسيطر على الاعتصام الشعبي أمام القيادة العامة للجيش السوداني، وكلاهما يريد أن ينتزع حق إدارة المرحلة الانتقالية، ولم يطرح أي منهما الاحتكام للشعب السوداني في هذه الفترة التي تتراوح بين عامين (طرح العسكريين) وأربعة أعوام (طرح قوى التغيير والحرية).
أفكار تحتاج إلى مراجعة
المزعج في الثورة السودانية لغة التهديد والتلويح بالانتقام من الإسلاميين عند استلام السلطة؛ فهذه النزعة الاستئصالية هي التي ستفسد الثورة، لأن هذه التيارات التي تتحرك بدوافع فاشية تقود إلى حرب أهلية وتحويل الحلم بالتغيير إلى سراب.
موقفنا الداعم للثورة السودانية لا يعني تجاهل ما نراه من تطرف البعض الذي يريد استغلال الانتصار لتصفية حسابات فكرية قديمة وإملاءات خارجية معروفة لصناعة حالة عداء باسم الثورة تجاه الإسلاميين.
انتقادنا لخطاب الكراهية يأتي من باب الحرص على الثورة السودانية التي نأمل أن تكون بداية لسودان جديد ينجح فيما فشلت فيه شعوب أخرى لم تحافظ على الفرصة بسبب نخب شاخت داخل افكارها المغلقة، وعقليات فاقدة لروح التسامح، تتحدث عن الديمقراطية وهي رافضة لها.
لقد توقفت عند "نداء السودان" الذي صدر عن القوى الرئيسية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير ووقع عليه قادة الحركات الانفصالية المسلحة، وتظهر خطوطه العريضة في تصريحات بعض المتزعمين لحركة التغيير، وأظن أنه يحتاج إلى مراجعة.
هذا الإعلان الذي صدر في 2016 وتم التأكيد عليه في مؤتمرات بالخارج آخرها في باريس الشهر الماضي يدعو إلى أفكار ستؤدي حتما إلى تفكيك السودان، مثل إلغاء هوية السودان العربية والإسلامية، وتأسيس النظام الجديد على الفيدرالية وإلغاء المركزية لصالح الولايات، وإعادة هيكلة المؤسسات النظامية (الجيش والأمن والشرطة) مع الابقاء على الجبهات العسكرية الانفصالية.
من المفهوم أن بعض القوى السياسية قد تضطر إلى التوقيع على بيانات وتقدم تنازلات طمعا في تحقيق درجة من الاتفاق لتوسيع قاعدة المعارضة لمواجهة قوة النظام لكن تغير الظروف السياسية يجعل من المحتم تغيير المواقف للمصلحة العامة.
في دولة مثل السودان فإن التدخل الخارجي والحركات الانفصالية المدعومة من أعداء السودان تجعل عملية التغيير ليست سهلة، كما أن تعارض وتقاطع مصالح هذه الأطراف تجعل المهمة صعبة أمام الشعب السوداني وتحتاج إلى حكمة وقدرة على الاستيعاب والتحرك بشكل جماعي وتفادي الانقسام.
إنقاذ الثورة
فلتكن الحرية هي الهدف، والعدالة هي القانون، وليكن الصندوق الانتخابي هو وسيلة تشكيل النظام السياسي الجديد، وإعطاء الشعب الحق في اختيار من يريد، وعقاب من يشاء، بإرادته الحرة من دون وصاية من أي أحد.
الحل لإنقاذ الثورة والسودان ليس في انفراد المجلس العسكري بالحكم، ولا في تسليم السلطة لمجموعة مغلقة يسيطر عليها الشيوعيين واليساريين، ولا باقتسام السلطة بين المجلس العسكري وتجمع المهنيين بعيدا عن الارادة الشعبية، وإنما بالاحتكام للشعب، والإسراع بإجراء الانتخابات والاحتماء -بعد الايمان بالله- بالتأييد الشعبي، ضد القوى الخارجية المتربصة بهم جميعا.
النظام الجديد المنتخب هو الذي يحدد السياسة الانتقالية، وهو الذي يحدد سياسة الأجهزة العسكرية والأمنية، ويحقق الاستقرار والرضا العام، بعيدا عن الإملاءات وتصفية الحسابات، وهذه المؤسسات المنتخبة هي التي ستقطع الطريق على محاولات الالتفاف على الثورة بدعم خارجي.
للأسف، فإن المشاريع المطروحة على الساحة لن تؤدي إلى نتائج مرضية، واستمرار الصراع بين المدنيين والعسكريين على النحو الذي نراه يؤكد أن اللعبة تتكرر وكأن شيئا لم يكن، وكأننا أدمنا استنساخ التجارب الفاشلة مع سبق الاصرار والترصد، من دون أية محاولة للفكاك من هذه السيناريوهات المتطابقة، التي استنزفت بلادنا وسلمتنا للقوى الاستعمارية الخارجية بدون مقابل.
يبقى التحدي الأكبر الذي يواجه الحكم الجديد أيا كان شكله أو لونه هو زراعة القمح وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وإلا فلن يخرج السودان من الدوامة، ولن تفيد الخطب وأطنان الكلمات وطوابير المظاهرات في تحقيق الاستقلال، والاستغناء عن الشياطين التي تستغل الانهيار وتساومهم برغيف الخبز والمعونات!
أضف تعليقك