• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم : د.محمد الصغير

شعب السودان له تاريخ عريق في الثورات الشعبيّة، وخلع النظم العسكريّة، بداية من الفريق إبراهيم عبود عام 1964 ثم جعفر نميري 1985، وكانت ثورة 1964 التي انطلقت شرارتها من الجامعة هي النسخة الأولى من الربيع العربي الذي بدأ مبكراً في السودان، وكان الطالب القرشي الذي قُتل أثناء المظاهرات، هو أيقونة الثورة قبل «بوعزيزي» تونس!وكانت الحياة السياسيّة أشبه بجولات الكرّ والفرّ، وتداول السلطة بالقوة بين المدنيين والعسكريين، حتى جاء حسن الترابي داهية العصر الحديث فمزج بين النموذجين، وقام بانقلاب شعاره عسكري ودثاره مدني، وأزاح حكومة الصادق المهدي المُنتخبة!حيث أعدّ مجموعة من الإسلاميين تدرجوا في الرتب العسكريّة وجعلهم واجهة الانقلاب، أما القاعدة العريضة فمن المدنيين، وبعضهم ألبسه زي العسكر، ووقع الاختيار على العقيد عمر حسن البشير لأنه أقدم زملائه رتبة جرياً على القواعد العسكريّة، ووضع الترابي في خُطته أن يُسجن مع قادة الأحزاب، حتى لا تظهر المسحة الإسلاميّة على الانقلاب، وبالفعل بلع الجميع الطُعم بما فيهم الجارة الكبرى مصر مبارك التي تنحاز لكل ما هو عسكري، وتتوجّس من كل ما هو إسلامي! ثم خرج الترابي من السجن، وأصبح مُرشد الثورة، ورئيس غرفة العمليات التي تدير الدولة، ولكن رويداً رويداً تسرّب خمر السلطة إلى فم البشير وذاق عسيلتها، وكما قال المتصوّفة: «من ذاق عرف ومن عرف اغترف» وتوازى ذلك مع تحرّك الجينات العسكريّة في عروقه، وتغلبت عنده العقيدة العسكريّة على العقيدة الإسلاميّة، فانقلب على أستاذه ومرشده، ودخل الترابي السجن هذه المرة مغضوباً عليه من نظام البشير الذي أصبح له بطانة حوله من الطامعين والطامحين.

وانقسمت الحركة الإسلاميّة في البداية إلى نصفين، فريق اعتبر ذلك انقلاباً ونقضاً للعهد وخيانة للأستاذ المُرشد، وفريق رأى أن البشير استخدم حقه الدستوري، ومنع ازدواجية القيادة ووجود رأسين للدولة.ومع طول مدة حكم البشير التي بلغت ثلاثين سنة تبدّلت المواقع، واستقطب البشير من الطرفين من قبلوا إكمال المسيرة معه، وكانت سياسة شراء الولاءات من أشدّ سياسات البشير سوءاً وفساداً، وهي التي كوّنت شبكة أرباب المصالح حتى أصبح الفساد المالي والإداري في السودان عملاً مُنظماً وعُرفاً مرعياً!ونظراً لأن سُكر البشير بالسلطة بلغ الثمالة، وأدمن شهوة الحكم فقام بتعديل الدستور، وقرّر أن يترشح لدورة جديدة بعد ثلاثة عقود عجاف، أملاً في عقد جديد فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون! خرجت الجموع الغاضبة تطالب بخلع عمر البشير، وهنا وقع رموز الحركة الإسلاميّة في مأزق، ليس في السودان وحدها، وإنما في جميع الأقطار، نظراً لأن رموز الحراك الشعبي في السودان من التيار اليساري والأحزاب غير الإسلاميّة، والقاعدة العريضة من جموع السودانيين غير المؤدلجين، فتغلبت عندهم العصبيّة الحزبيّة، على الثوابت والمواقف المبدئيّة، فسكتوا عن حق الشعب في اختيار الحاكم العادل وعزل المُستبدّ الفاسد، وغضّوا الطرف عن فساد البشير وزمرته، وتمسكه بالحكم إلى آخر رمق ومنع تداول السلطة، وسقطوا بذلك سقوطاً مريعا، وتعددت أعذارهم التي كانت أقبح من الذنب. فمن قائل: ليس لدى الإسلاميين البديل المُناسب، وهذا قمة العجز والفشل، فلو اعتبرنا أن نظام البشير «إسلامي» فأية جريمة أكبر من عدم إعداد الكوادر خلال ثلاثين سنة؟الحقيقة أن البشير حاكم عسكري، خرج من رحم الحركة الإسلاميّة، ثم خرج منها عندما أوصلته للحكم، وانقلب عليها كما فعل جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين الذين بايعهم على المصحف والسيف، وكان عضواً في صفوفهم! لكن البشير لم يُعادِ التيار الإسلامي، ولم يّضيّق عليه، وكان يراه الحائط الذي يرتكن عليه عند النوائب، فأي فشل في ميزان الإسلاميين أثقل من عدم إعداد البديل المُناسب في ظل حاكم حليف، ونظام أليف؟ وثاني الأعذار: هو خوف قطاع من الإسلاميين من دخول خليفة البشير في حلف الثورة المُضادة، ومعسكر الليكود العربي، والسؤال ماذا سيفعل خليفة البشير أكثر من المُشاركة في قتل شعب اليمن الشقيق تحت راية محمد بن زايد ومحمد بن سلمان؟ وماذا سيفعل خليفة البشير أكثر من التطبيع العلني مع بشار سفاح الشام، والمشي على سجادته الحمراء المُخضبة بدماء الشهداء والأبرياء؟ماذا سيفعل خليفة البشير أكثر من الشراكة المُباشرة مع نظام السيسي والتنقيب عن الذهب على الحدود بين الدولتين تحت مظلة شركات الإمارات؟ لقد غادر البشير حكم السودان وليس فيها خبز ولا طحين، واستنجد بخبرة خير خبازي الأرض، لفتح أفران عسكريّة على الطريقة السيساوية !أما العذر الثالث: فهو الخوف من تصويت الناس لغير الإسلاميين تصويتاً عقابياً لما ألحقه نظام البشير بالبلاد والعباد، وليكن ذلك ففيه مبدأ إرساء تداول السلطة، ومع تغيير الإسلاميين من طريقتهم والتعديل من برامجهم، لن يبخل الشعب وقتئذ عليهم بصوته، فقد حقق أردوغان الأغلبية في الانتخابات البلديّة الأخيرة، للمرة السادسة عشرة على التوالي، بأصوات الشعب التركي بمختلف أطيافه تقديراً لجهده وإنجازاته.

نقلاً عن موقع الجزيرة مباشر

أضف تعليقك