مقال بقلم قطب العربي
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، أرسل وزير الخارجية البريطاني أرثر بلفور رسالة رسمية إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وأيرلندا، وقد ورد في الرسالة التي وصفت لاحقا بـ"وعد بلفور": "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية".
احتاج وعد بلفور 31 عاما حتى يتجسد واقعا في إعلان الكيان الصهيوني عام 1948، كما ساهمت الرسالة في تشجيع يهود القارة الأوروبية على الهجرة إلى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعودا للتيارات القومية المعادية للسامية.
لا ينتظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثل هذه المدد الطويلة لتنفيذ وعوده، بل إنه يعتبر مجرد كتابة تغريدة على تويتر بمثابة قرار واجب النفاذ في التو واللحظة. فقد سبق له في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2017 أن أعلن عبر حسابه الشخصي عن قراره باعتبار القدس، بشقيها الشرقي والغربي، عاصمة للكيان الصهيوني، وفي 14 أيار/ مايو 2018 تم فعلا نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس، وهو القرار الذي تباطأ الرؤساء الأمريكيون السابقين في تنفيذه لمؤامات سياسية.
النظام السوري مشغول بالدفاع عن حكمه، وهو الذي سبق له أصلا التنازل عن الجولان، سواء في حرب 1967، أو قبول ضم إسرائيل لها عام 1981، وهو لن يطلق طلقة واحدة تجاه الجولان، وفاء بتعهدات سابقة، والدول العربية هي حليفة لترامب
ويوم الخميس الماضي، غرد ترامب على تويتر: "بعد 52 عاما حان الوقت لاعتراف الولايات المتحدة الكامل بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان التي لها أهمية استراتيجية وأمنية حيوية لدولة إسرائيل والاستقرار الإقليمي"، وهو ما يشبه إلى حد كبير وعد بلفور، لكنه يختلف عنه في سرعة التنفيذ. فصحيح أن الجولان هي تحت الاحتلال الإسرائيلي الفعلي منذ العام 1967، وقد أعلن الكيان ضمها رسميا لأراضيه في العام 1981، لكن العالم كله ظل وحتى اليوم يتعامل مع الجولان باعتبارها أرضا محتلة، ومع الوجود الإسرائيلي عليها باعتباره سلطة احتلال. ويأتي قرار ترامب لينسف هذا الإجماع الدولي، ويرسي واقعا سياسيا جديدا، مستغلا حالة الموات العربي والإسلامي التي يدرك أنها لن تتحرك قيد أنملة للدفاع عن الجولان.. فالنظام السوري مشغول بالدفاع عن حكمه، وهو الذي سبق له أصلا التنازل عن الجولان، سواء في حرب 1967، أو قبول ضم إسرائيل لها عام 1981، وهو لن يطلق طلقة واحدة تجاه الجولان، وفاء بتعهدات سابقة، والدول العربية هي حليفة لترامب ولا يمكنها أن تغضبه، وتجد لنفسها مبررا في الموقف السوري، فهي لن تكون ملكية أكثر من الملك.
قرار ترامب هو في ظاهره هدية لصديقه رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، لمساعدته في الانتخابات البرلمانية في نيسان/ أبريل المقبل، وهو الذي يواجه سيلا من الاتهامات التي وجهها له النائب العام الإسرائيلي، وهي اتهامات كفيله بإسقاطه في الانتخابات، لكن الحقيقة أن قرار ترامب هو أعمق من ذلك، إذ أنه يبدو كجزء من صفقة القرن التي يعتبرها ترامب مشروعه الأساسي في المنطقة والعالم. ويبدو أن تقاطعات وتشابكات هذه الصفقة كثيرة، فهي شملت من قبل نقل جزيرتي تيران وصنافير المصريتين إلى السعودية مقابل إغراءات مالية لمصر، ومقابل منح السعودية لبعض الأراضي للأردن؛ الذي سيطلب منه منح أراض للفلسطينيين، كبديل للأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل في الضفة الغربية وغور الأردن، مع تحمل السعودية للجزء الأكبر في الالتزامات المالية لصفقة القرن، والتي كان منها أيضا إقامة مشروع نيوم الاستثماري بتعاون سعودي مصري أردني إسرائيلي، ليكون باكورة لمشاريع اقتصادية مشتركة نحو التطبيع الكامل من جهة، ولخلق فرص عمل تكون الأولوية فيها للفلسطينيين بهدف إغرائهم (ضمن إغراءات أخرى) بقبول الصفقة، من جهة ثانية.
قرار ترامب هو أعمق من ذلك، إذ أنه يبدو كجزء من صفقة القرن التي يعتبرها ترامب مشروعه الأساسي في المنطقة والعالم. ويبدو أن تقاطعات وتشابكات هذه الصفقة كثيرة
يبدو أن إعلان ترامب حول الجولان هو بديل مؤقت لإنقاذ صديقه نتنياهو في انتخابات التاسع من نيسان/ أبريل، وقد اضطر ترامب لتاجيل الإعلان عن تفاصيل صفقة القرن بشكل كامل بسبب الرفض الفلسطيني والأردني لها، وانتظارا لنتائج الانتخابات الإسرائيلية من ناحية ثانية. لكن على الأرجح، فإن إدارة ترامب ربما اختارت مقاربة أخرى لتنفيذ الصفقة "بالتجزئة"، وهو ما ظهر في قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتثبيت حق إسرائيل في تملك أرض الجولان، ومن قبل ذلك نقل جزيرتي تيران وصنافير المصريتين إلى السعودية. وسنفاجأ يوما بعد يوم بمزيد من القرارات والإجراءات العملية الجزئية لتنفيذ بقية مشتملات الصفقة لتجنب المواجهة الشاملة مع شعوب المنطقة.
لا يعني فرض بعض الوقائع على الأرض، مثل نقل السفارة أو احتلال الجولان، أو نقل الجزيرتين المصريتين، أو جولات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أو جاريد كوشنر، صهر ترامب وعراب الصفقة؛ في المنطقة العربية أن الصفقة يمكن أن تكتمل عقب الانتخابات الإسرائيلية، كما يخطط ترامب وفريقه، فالرفض للصفقة يتصاعد من الطرف الفلسطيني بكل أطيافه، والرفض من الأردن أيضا، الذي يخشى على وجوده، وعودة الروح للربيع العربي كما هو الحال في الجزائر والسودان تنبئ بمواقف شعبية عربية وإسلامية قوية قد لا تحتملها واشنطن، وستكون حائط صد في مواجهة الأجزاء الحساسة في الصفقة. وحتى القرار الأمريكي الخاص بالجولان يواجه معارضة دولية متصاعدة حتى الآن؛ لأنه يخالف بشكل سافر قرارات دولية، ولأنه يضر بمصالح دول مهمة أخرى في المنطقة والعالم.
أضف تعليقك