بقلم.. وائل قنديل
هي الأصوات ذاتها التي حاولت أن تعزل الحراك السوداني عن محيطه العربي، تتردد الآن مع الحراك الجزائري، في محاولةٍ لسلخه عن مسيرة ربيع العرب الذي بدأ قبل ثماني سنوات، ثم انكفأ.
النص الانعزالي واحد، بتنويعاتٍ مختلفة: هذا مشروعنا الخاص، لا علاقة له بربيعكم العربي الجريح، لا تسكبوا عصارة فشلكم فوق مسيرتنا الخاصة.
هل هذه الأصوات تمثل تعبيرًا حقيقيًا عن موقف الشعبين، السوداني والجزائري، من الربيع العربي؟ وهل حقًا ما يجري في البلدين الشقيقين مقطوع الصلة بما جرى في الدول العربية الأخرى، مصر وتونس وليبيا وسورية واليمن؟
الراجح أن الأصوات التي تتبنّى هذا الخطاب الانعزالي، الشوفيني أحيانًا، تنتمي إلى مشروعٍ مناهضٍ لحراك التغيير، بأكثر مما تؤمن بمشروع التغيير العربي، وليس من قبيل المبالغة والتزيّد أن يقال إنها وسيلةٌ تستخدمها الدولة العميقة لحرمان الغضب الثوري من حاضنته العربية الأصيلة، لتقول، في نهاية المطاف، إنه ليست ثمّة ثورة، تشبه هبّات شعوب الربيع العربي، طلبًا للتغيير الشامل.
أتذكر حين هبّت رياح التغيير على مصر في العام 2011 أن الأشقاء من الشعوب العربية كافة كانوا بقلوبهم وعقولهم في ميدان التحرير، وتحتفظ الذاكرة بكلمات أشقاء وشقيقاتٍ من الجزائر كانوا حاضرين معنا في الميادين، لحظة بلحظة، يغمروننا بالدعاء وبالنصيحة والتشجيع، معتبرين أنهم شركاء في حلم عربي واحد بالديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
صحيحٌ أننا خذلناهم بأخطائنا وخطايانا الكارثية، ولم نحافظ على حلمهم وحلمنا كما ينبغي، غير أن الصحيح كذلك أنهم كانوا، وما زالوا، معنا في فترة انكسار الحلم وتعثره، يتألمون لجرحنا، ويقدّمون صورًا رائعة من الدعم الروحي، والإسناد بالأفكار والرؤى والتشجيع على النهوض من الكبوة.
ولذلك، ليس مستغربًا، وينبغي ألا يكون مستهجنًا، أن تندلع هذه الموجة من مشاعر الوحدة مع الحلم الجزائري، إلى الحد الذي يدفع الجميع إلى منح أنفسهم أحقيةً وصلاحية الإفتاء، سواء بعلمٍ أو بغير علم، في الموضوع الجزائري، وخصوصًا أن دراما التغيير تتشابه على نحو مدهشٍ هنا وهناك، والأهم أنه ليس في مقدور أحد أن يمزّق خريطة مشاعر الأخوة والإيمان بالشراكة في الحلم والمصير بين الشعوب العربية.
والشاهد أن الحالة الجزائرية هي الأقرب للحالة المصرية، والارتباط بينهما هو الأعمق، منذ زمن "عبدالناصر- بن بلة" وحتى مرحلة "مبارك – بوتفليقة"، أو بالأحرى "جمال مبارك - سعيد بوتفليقة"، مع اختلاف أساسي، هو أن استبداد الدولة العميقة الجزائرية لم يكن منقوعًا في عطن التطبيع مع العدو الصهيوني، كما كان الحال في دولة حسني مبارك العميقة.
على أن بوتفليقة، كما بدا فيما قيل إنه خطابه الأخير، كان مباركيًا بامتياز، شكلًا ومضمونًا، حتى التغيير الذي أعلنه لم يختلف عن التغيير الذي اضطر له مبارك في محاولته اليائسة للاحتفاظ بدولته العميقة، إذ لا يختلف الوزير الأول، الجنرال نور الدين بدوي، الذي عيّنه بوتفليقة في الرمق الأخير، عن نائب مبارك الاضطراري، الجنرال عمر سليمان، أو رئيس الحكومة الجنرال أحمد شفيق، بل إن فكرة الالتفاف على المطالب بالإعلان عن لجنةٍ للوفاق أو الحوار الوطني تبحث تعديل الدستور والانتخابات، لا تختلف، في جوهرها، عن حيلة نظام مبارك الأخيرة، منعًا للسقوط.
والحال كذلك، لا غضاضة في أن يرى عشرات الملايين من جرحى الربيع العربي أنفسهم خبراء في وصفات الفشل والنجاح، والانكفاء والنهوض، والتعثّر والقيام، مدفوعين بذلك الإحساس اللعين بأنهم اغترفوا من محيط الألم والانهزام ما يزيد عن طاقتهم، وباتوا متعطّشين للحظة نجاح ونجاعة، تخفف آلامهم، وتبعث فيهم الأمل من جديد، وترمّم تلك الشروخ العميقة في أخاديد الذات المهزومة.
حتى ردود الأفعال لدى الجماهير والنخب الثورية الجزائرية على هذه الحزمة من الوعود المهدّئة، لم تخرج عن مضمون ردود الثورة المصرية على عرض مبارك، أو"التسعة عشر مبارك" الذين خلفوه.
ولأنني، المواطن العربي، أرى أن ثورة يناير المصرية كانت حلمًا للجزائريين المحبين لمصر الحقيقية، فمن حقّي، بل من واجبي، أن أفرح بما حققه الحراك الجزائري، وأقلق على ما هو آتٍ، وأحذر من الثعالب المتربصة بالكروم، من دون أن تعتريني أية حساسيةٍ تجاه الابتزاز باسم الخصوصية، أو الشعور بعقدة التدخل فيما لا يعنيني.. تعنينا الجزائر، كما تتعلق أفئدتنا وأبصارنا بمصر وفلسطين وسورية وتونس وليبيا واليمن.
أضف تعليقك