• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: يحيى مصطفى كامل

في بداية خدمتي العسكرية الإلزامية، ولم يكن قد مضى أكثر من أسبوعٍ ربما على التحاقي بوحدتي، رجعت من إجازة لأجد كل الجنود والضباط مهمومين متكدرين. لم أكن بحاجة للسؤال، فقد بادرني الجميع بالخبر الكئيب: نحن محبوسون.

لم أفهم في البداية! غير أن الشرح أيضا لم يتأخر: لقد عُين قائدٌ جديد للجيش التابعة له وحدتنا، وقد قرر أن يختبر استعداد القوات وجهوزيتها فأمر بـ «مشروع حرب» ما أدى إلى قيام بعض الضباط المنوط بهم تفقد الوحدات بالهبوط على كتيبتنا للتفتيش، حيث تبين لهم عدم «الجهوزية» فأمروا بحبسنا ريثما يرتفع مستوانا القتالي.

حرت في فهم مغزى ذلك ونتائجه، وللأمانة فقد شعرت بالقلق والخوف، فأنا لم أُحبس من قبل، وخشيت أن يطول الأمر غير أن أحد الضباط لم يلبث أن شرح لي الأمر باختصار مبسطا، «من الآخر» كما نقول بالعامية المصرية: قائد الجيش الجديد غربالٌ له شدته، يريد أن يزأر فيسمع صوته ( أو على الأقل هذا ما يدور في رأسه) ولا بد أن يبدو أنه يفعل شيئا، لذا فهو يحدث كل هذا الصخب والضجيج، مناورة ٌ هنا ومشروع حرب هناك. أما حكاية حبسنا تلك، فقد أخبرني مغيظا أن ذلك يعني أننا سنمنع من الإجازات، وسنقبع لنتعفن في مقر وحدتنا، حتى يمر ضابطٌ فائضٌ عن الحاجة عديم الفائدة، كل مؤهله ومسوغه في الحياة رتبةٌ على كتفه حازها بالأقدمية، أي بمرور الزمن المحض، الذي قضاه يتملق الأعلى رتبة منه، فيقرر أن درجة جهوزيتنا قد بلغت المستوى المقبول فنحرر ويطلق سراحنا، الأمر الذي قد يستغرق شهرا على التقريب.

وقد كان، على الرغم من أن شيئا لن يتغير. عرضٌ مسرحي وأوراقٌ تستوفى، وما الناس سوى بيادق لا قيمة لها، ولا تسل عن الغرض أو المنافع المزعومة، فذلك فرطٌ في السذاجة، فعلى قول أحدهم لن نستعد ولم نحارب ولن يتغير شيء أو يحدث.

استعدت تلك الذكرى البعيدة، وأنا أتابع فاجعة القطار الأحدث، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة للأسف، ولعلي لست مبالغا إذ أزعم أن الكل يعرف ذلك في قرارة نفسه، والفارق في ما إذا كان يصارح نفسه بذلك أم لا. فوق العشرين ماتوا حرقا وأكثر من ضعفهم مصابون.

لا شك أن كارثة كتلك كفيلةٌ بهز أي مجتمعٍ أو نظام، بيد أن مشكلة النظام المصري لها طابعٌ خاص، أكثر تعقيدا، فالملح في الموضوع ليس أن نفرا كثيرا مات، وإنما تأثير ذلك على مجمل الصورة التي يحرص النظام عليها، وعلى صورة السيسي تحديدا. لقد قاطع الحادث العرض، ذلك المستمر مذ تصدر السيسي الأحداث. أجل هو العرض، أبدا ودائما. دخوله ببذلة عسكرية فاخرة، دخول الغازين الفاتحين على سطح طراد أو مركب، لا أعلم، مفتتحا تفريعة قناة السويس الجديدة، أجل تلك التي لم يعد أحدٌ يتحدث عنها ولا نسمع عنها شيئا. صورته في شرم الشيخ مع رؤساء أوروبا ما يعد اعترافا وإقرارا بوضعه وسيطرته، هو دائما العرض، لاسيما أن سيطرة الدولة الشاملة على أجهزة الإعلام، بل ملكيتها المباشرة في بعض الأحيان يتيح ذلك. فالنظام يخلق عالما مغايرا، موازيا، يعيش فيه الناس وفي ما يبثه من أحلام وأوهام ما تسمروا أمام الشاشات.

ثم تأتي فاجعةٌ كتلك لتعيد الناس، لتعيدنا جميعا، إلى الواقع، تلقي بنا في قلبه، على رثاثته وفقره وقبحه، إلى مصر الحقيقية التي نعرفها في الشوارع القذرة المتهدمة، والمرافق والخدمات العامة المتهالكة المتعفنة، والإهمال والتردي وما يطلق عليها منظومة الرعاية الصحية التي تعد خرقا لحقوق الإنسان والحيوان، مصر التي لا ثمن فيها لأحد ما لم ينتمِ للمحاسيب والواصلين، أو لم يكن راقصة أو لاعب كرة، على رأي الفذ نجيب محفوظ، مصر القمع والاختفاء القسري والمعتقلات والإعدامات الجماعية، وما ذلك إلا على سبيل المثال لا الحصر، فالقائمة أطول من ذلك بكثير بالطبع. فالسؤال الواقعي والمنطقي في مصر هو: أين المصيبة اليوم؟ لا، هل هناك مصيبة؟ فإن لم نعلم بها فهي غير معلنة لا أكثر، كإضراب عمالي هنا على ظروف غير إنسانية، أو معتقلين ينتهكون في سجون متعددة؛ أما والأمر الآن يتعلق بكارثة قطار، فلعله من الأليق والأدق أن نتكلم عن ملف كوارث القطارات، لا عن كارثة بعينها، فما الأخيرة تلك سوى صفحة من كتاب لم تخط نهايته بعد، ولا في المستقبل القريب، كما هناك العبارات والشاحنات والطرق السريعة، والشاهد أن المصريين دمهم رخيص، رخيص للغاية.
ولعل أعجب العجب، أن نعجب من ذلك، فالحقبة الراهنة التي تعمدت بالدم لن تبكي على بضع عشرات يموتون في قطار، وكما هو متوقع سارعت أبواق الإعلام لتذكرنا بالكوارث التي تحدث في كل مكان، فنحن لسنا أسوأ من أمريكا، ثم وهو الأهم، ما ذاك إلا قدرٌ من الله، كالتسونامي وسائر الكوارث الطبيعية، يكفر من يعترض عليها، وربما من يتساءل عن الحكمة أيضا، ثم حين يجدون موظفين أو سائقين أهملوا (وهو حاصلٌ بالفعل لا ننكره) طفقوا يتحسرون ويمصمصون شفاههم على الأخلاق المنحدرة وغياب الضمير.

لكن تبقى الأهمية القصوى للصورة والعرض، إذ لم يزل من الصعب تجاهل الكارثة، لاسيما أن الناس رأت ضحايا يحترقون، ويستطيع الكثيرون أن يتماهوا معهم. لذا فلا بد أن تبدو الدولة وكأنها تفعل شيئا، أنها تتحرك، تماما كما حدث في حالة قائد الجيش ومشروعه، فيستقيل الوزير (وهي خطوةٌ محمودةٌ دون شك)، وتخرج تصريحاتٌ حادة وصارمة عن توجيهات الرئيس بالتحقيق والمحاسبة إلخ. ثم نشاهد سائق الجرار وهو يعترف بالتقصير، لكن المشكلة تكمن في أنه يشير إلى الترهل وانعدام الصيانة، وتهالك المعدات، وعدم الالتزام بقواعد الأمان، ومنها الحد الأدنى من العمالة البشرية، أي إنه يقودنا نحو الأعمق في ذلك الواقع المترهل.

سيستمر التحقيق في تلك القضية ككل سابقاتها، وسيتم التقاط بعض موظفين بسطاء، من فئة السائق والحمال وناظر الوردية وعامل في ورش الصيانه إلخ، أناس مسحوقون مداسون من مستنقع البؤس الآسن، لتتم التضحية بهم وتقديمهم قرابين لا ثمن لها على مذبح مجد وقداسة توجيهات الرئيس، فرب ضارة نافعة، وما أبدع أن يخرج في نهاية المطاف ألمع، مظفر لا دخل له بالأمر، بل مضح مظلوم في هذه المسؤولية؛ إذ تحمل خطأ وتقصير وترهل الستين عاما الماضية. ستصدر أحكام، ربما قاسية، ضحايا يدفعون ثمن ضحايا، وستستوفى السجلات وتسد الخانات، وفي النهاية، لن يتغير شيء.

لن تكون هذه آخر الفواجع بأي حال من الأحوال، ولن يحاسب أو يسأل المسؤولون الحقيقيون، ولن ننفذ إلى لب المشكلة؛ إن الناس في بلادي رخيصون للغاية، رخيصة دماؤهم وأعراضهم، فالنظام الذي يصفي معتصمين بالمئات، ويصفي حساباته مع أحد أبنائه المخلصين ومسوقيه، بفضح فتاتين، لن يقيم وزنا أكثر لعشرات في حادث قطار.

من لم يفهم الرأسمالية والتوحش فمرحبا به في مصر، في حقبة النظام السيسية، ليفهم ويشعر في أحشائه بمعنى التفاوتات والتناقضات الطبقية، والطبقة التي تعيد إنتاج نفسها واللواء الجاهل الذي يخلف أخاه، ليرى الدم الرخيص والقمع وجيش العاطلين الاحتياطي، والهيمنة والاستغلال وفائض القيمة، ليرى رأس المال المتحالف مع العسكر، وقد جاء يرشح دما بالمعنى الحرفي، ليرى الوحش يعتصر الناس ويحطمهم ليستمر، ويبتعد ليبني عاصمته الجديدة الوهمية بنهرها الجديد وأبراجها، فوق الواقع الرث وحطام الناس، فأهلا بك في مصر السيسي.

أضف تعليقك