• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

وائل قنديل

حدث بالفعل: تظاهرات تجوب القاهرة هاتفة: يسقط الدستور.. تسقط الديمقراطية والحرية.. يعيش الجيش .. يعيش الزعيم، ثم تصل إلى مبنى مجلس الدولة، لمحاصرة رئيسه الرافض تعديل الدستور الذي كان هو مهندسه، وحائكه القانوني، على مقاس النظام العسكري.

تنجح الجموع في اقتحام بوابة المجلس المغلقة بالسلاسل الحديدية والجنازير، وتصبح على بعد خطواتٍ من رئيسه. وهنا يظهر العسكري الثائر طالبًا من رئيس المجلس الخروج للجماهير الغاضبة لامتصاص غضبها، وما أن يخرج، حتى يتحول إلى فريسةٍ سهلة، ويتلقى الركلات والصفعات والشتائم، بوصفه "الخائن الجاهل"، فيظهر ضابط الجيش منقذًا لحياته، فيخرج ملفوفًا في سجادة إلى بيته.

الحكاية منقولة بتصرّف من كتاب مهم للباحث عمرو الشلقاني بعنوان"ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية 1805- 2005". أما رئيس مجلس الدولة فهو عبد الرزاق السنهوري، الذي امتدت يده لحياكة دستور 1923 ليكون على هوى ضباط يوليو 1952. وأما الضابط الثائر الذي خلصه من بين براثن غضب المواطنين الشرفاء فكان عضو مجلس قيادة الثورة الصاغ صلاح سالم. وأما التظاهرات فقد أدرك السنهوري لاحقًا أن من أعد لها وأخرجها ووجهها إلى مقر مجلس الدولة لتأديب رئيسه على انحيازه للديمقراطية في أزمة مارس/ آذار 1954 هي هيئة التحرير (التي يقابلها "ائتلاف دعم مصر حاليًا"، بأوامر من البوليس الحربي "المخابرات الحربية حاليًا").

من 1954 إلى 2019، هناك فاصل زمني يمتد إلى 66 عامًا تبدلت فيها أمورٌ وتغيرت أحوال، إلا أن المنهج بقي ثابتًا، وإذا كان الهتاف بسقوط الدستور وموت الديمقراطية والحرية قد تردّد على ألسنة "المواطنين الشرفاء"المسيرين قديمًا، فإن مضمون الهتاف ذاته يتكرّر في 2019. ولكن على ألسنة أساتذة علوم سياسية، تخرجوا في أميركا التي توصف بواحة الديمقراطية، من نوعية المعتز بالله عبد الفتاح، الذي يقول إلى الجحيم بالديمقراطية إذا كانت ستعطل مسيرة الزعيم الملهم ورؤيته التنموية النهضوية التي تلتهم الأخضر واليابس من الحريات وحقوق الإنسان والحياة السياسية في مصر.

مضمون الهتاف نفسه سمع أيضًا تحت قبة برلمان عبد الفتاح السيسي، حين طالب نواب بعدم الاكتفاء بتعديلات الدستور، وإنما نسف الدكتور كله، وصياغة دستور جديد، يناسب ذوق الزعيم، الذي هو أبو الدستور وأبو القانون وأبو الوطن نفسه.

على أن ثمّة فروقًا واضحة بين مصر 1954 ومصر 2019، إذ كانت هناك، لا تزال، أصوات من النخبة القانونية والقضائية تستطيع أن تجهر بالاعتراض وتدفع الثمن، حتى وإن كان الثمن اعتداءاتٍ جسدية، قيل إنها بلغت ضرب رئيس مجلس الدولة بالحذاء. أما الآن فالكل مختبئٌ في جلده، لا يقوى على الاعتراض، أو حتى إبداء الرأي في مواد تشنق استقلال الهيئات القضائية وتتخذها سبايا في قصر الزعيم، إلى الحد الذي انزعج فيه مجلس القضاء الأعلى من خبرٍ سرعان ما تم حذفه عن اعتراضاتٍ قضائية على تلك المواد، ليصدر تكذيبٌ مكتوبٌ بحبر الرعب والرجفة، لمثل هذه الأخبار المضللة.

يضاف إلى ذلك أن النخبة السياسية في ذلك الوقت لم تكن من البؤس الذي يجعلها تقع في ارتباكٍ عميقٍ بين التناقضات الجذرية، والخلافات العابرة مع السلطة، فلم يتضح في الوضع الراهن ما إذا كان الخلاف مع سلطة الانقلاب يتعلق بأنها انقلاب على كل شيء، أم ينحصر في خلافٍ على ممارساتها، بحيث إذا توقفت عن هذه الممارسات والانتهاكات تصبح جيدةً وشرعيةً ومحترمة؟.

وفيما يتعلق بالمتاهة الدستورية العبثية، هل المسألة تتعلق بموقف مبدئي قطعي، يرفض منطق العبث بالدستور، كلما أرادت السلطة، أم هو خلافٌ على مواد وموافقة على أخرى في بازار التعديلات؟.

الشاهد أن السيسي لم يخرج في اللعبة الدستورية فائزًا بتمرير التعديلات فقط، وإنما مكسبه الأكبر أنه استدرج المعسكر الرافض الانقلاب، من حيث المبدأ، إلى مجرّد معارضةٍ لبعض السياسات والإجراءات فقط، تلعب في المساحة المخصصة للمتمسكين بمشروع 30 يونيو 2013، لكنهم متضرّرون من شراسة السلطة ضدهم، وتسقط، أو تتجاهل جذور المأساة، وتتغافل عن أن هناك نظامًا شرعيًا يواجه تعذيبًا وتنكيلاً، تحت الأرض التي يلعبون فوقها.

بمعنى آخر، هل المعركة مع السيسي هي تناقض جوهري مع نظام دموي يحرق الجغرافيا السياسية والاجتماعية والحضارية لمصر، تنبغي إزاحته، أم خلافٌ مع سياساتٍ وإجراءاتٍ، بزوالها يكتسب جدارة أخلاقية ودستورية؟.

أضف تعليقك