بقلم سيف الدين عبد الفتاح
تحدثنا في مقالات سابقة عن كيف تكون البحوث التي تتعلق بالدراسات الميدانية من أهم مداخل النقد الذاتي، وحينما شاهدت ذلك الفيلم التسجيلي الذي صوره أحد الشباب وأخرجه شاب آخر ليعبر به عن وعاء جديد ومساحة جديدة للنقد الذاتي، رأيت فيلم "في سبع سنين" بمثابة دق جرس إنذار لبعض ظواهر تلوح من بعيد، قد تتراكم وربما تتفاقم مع تغافلها وإهمالها، ومن ثم فإن دق ناقوس الإنذار على هذا النحو أعتبره أمرا مشروعا ومهما يجب أن يمارس على أوسع نطاق، في إطار عملية واسعة من نقد ذاتي لا بد وأن يكون مشفوعا بتقديم الرؤى والمنظورات المختلفة والآليات التي تشكل مواجهة لهذه الظواهر وهي في مهدها.
ومن هنا، فإنني قد لا أتفق مع كثيرين انتقدوا ذلك الفيلم انتقادا مرّا ومطلقا، ولكنني مع هؤلاء الذين توقفوا مع بعض مشاهده وعلى رؤيته التي يجب أن تكتمل في ظل حلقات أخرى توضح نماذج إيجابية، فضلا عن تلك النماذج السلبية التي قام على عرضها واستقصائها.
إنها المهمة الكبرى المتوازنة التي يجب أن نراعي فيها المسائل التي تتعلق بدق جرس الإنذار، لنؤشر من خلالها على "إشارات حمر" على الخطر، كما نؤشر على مكامن الأمل ومظاهر الصمود. إنها الرؤية المتكاملة المتوازنة لمشهد ثورة لم تنته فصولها.
صحيح أن هذا الفيلم قد تطرق إلى ظاهرتين تشكلان تطرفين لا يزالان يمثلان هوامش لظاهرة بدت تتسرب إلى نفوس الشباب، وهي الإحباط والحيرة، والتي تشكلت في ردود فعل شتى، أهمها على وجه الإطلاق ما تعرض له فيلم سبع سنين (أنصار الممارسة العنيفة والإلحاد)، إلا أنه من المهم أن نؤكد أنه حينما تتسرب مثل هذه الظواهر إلى سلوكيات الشباب؛ فإننا في حقيقة الأمر أمام مؤشرات مهمة تشير إلى ضرورة البحث في نشأة هذه الظواهر والعوامل خلف تكونها والأسباب التي تعتمل فيها وتٌحدِث تناميها. إنها الظواهر التي تدل على آثار سلبية تراكمت هنا وهناك في ردود فعل اتخذت أشكالا تطرفية، أحدها في السلوك والثانية في التفكير. وهنا من المهم في هذا المقام أن نعالج الفكرة التي تتعلق بكيف تتكون "الأدمغة المفخخة" أو "المنفلتة" حينما تمارس تطرفا من الناحية الفكرية أو تمارس عنفا من الناحية السلوكية.
هذه الظواهر وفق أساليب التحليل الاجتماعي والسياسي والنفسي والجماعي إنما تتطلب تقصيا لبذور هنا وهناك؛ تؤشر على بداية تكون ظاهرة يجب أن نلحظ كل العناصر الدافعة لها والداعمة لتراكمها، وهو أمر أشار إليه "مالك بن نبي" في تصنيفه في إطار "الأفكار المنتقمة" و"الأفكار القاتلة" و"الأفكار المخذولة".. "الأفكار الميتة" و"الأفكار المميتة".. "الفكرة الوثن" والأفكار التي تعول على حالة من الشكلانية، وهي تمتهن جوهر القيم الأساسية.
من هؤلاء الذين ينتقدون هذا الفيلم نفر ليس بالقليل يريد أن يطمس حالة التفكير والتدبير حول هذه الظواهر الناشئة على سلبيتها وإيماننا بذلك، لا لشيء سوى أنه يريد أن يعفي نفسه من المسؤولية، ويريد أن يكتب لنفسه براءة ذمة، وهو في حقيقة الأمر من أهم العوامل التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة من كثير من أفكار تبناها، وأخطاء قام بها، وخطايا لم يعترف بمسؤوليته عنها.
ومن هنا، فإن الشباب بهذا الاعتبار قد رأى فشلا ذريعا وسقوطا مريعا، ورسوبا فاضحا في امتحان الثورة لنخبة فاشلة في أن تكافئ الحالة الثورية من جهة، وطموحات الشباب وآمالهم وأشواقهم من جهة أخرى.. هذه الفجوة الحقيقية هي التي كونت بيئة الإحباط، ومكنت لبيئة الاستقطاب، فكانت هذه النخبة بحق تتسم بضيق أفق شديد، أو بالوقوع في خانة النخب المحنطة المتكلسة التي مارست اختلافاتها الأيديولوجية بلا حساب، وتحركت أسيرة لأهدافها الأنانية حتى لو كان ذلك على جثة الوطن وعلى حساب آمال الشباب في ثورة وتغيير..
هكذا كان رسوب النخبة بامتياز في امتحان الثورة وامتحان الانقلاب وامتحان مجزرة رابعة، فلم تتحرك هذه النخبة إلا من رسوب إلى رسوب، ومن سقوط إلى سقوط، ومن ضيق أفق وتكلس إلى تدهور وانحطاط.. مارست كل ذلك وهي تدوس على الشباب في طريقها، وهي لا تلحظ أنها حينما تخفق في مواجهة هذه الاختبارات فإن الشباب تتزلزل قيمه وتزلزل شخصيته، فتحرك نحو تفلت أو تطرف وعنف. وها هي الاختبارات تترى هنا وهناك حتى تعبت الأقنعة من السقوط، وبدا الشباب يرى الانكشاف الكبير والانفضاح الخطير لمعظم هذه النخب، وهي تعبر عن هذا الانحطاط، وهو ما حدا بنا إلى نقل هذا الوصف من النخبة المحنطة إلى نخب منحطة.
إن هذا الانحطاط في حال النخبة لم يكن في حقيقة الأمر إلا من خلال سماحها لذاتها لأن تنحدر إلى حال انحطاطها في استقطاباتها، فتنزل بخلافاتها إلى عصب المجتمع وإلى عمق نفسية شباب مصر، فتحركت تلك النوازع جميعا - وللأسف الشديد - إلى حالة افتقاد هؤلاء الشباب الطب والدواء، وتمكن منهم الداء. فحينما يأتي فيلم كهذا ليشير إلى ذلك، فنجابه هذا بثقافة إنكار ثم سلوك استنكار، فإن ذلك يعني أننا لا نريد أن نبحث عن حقيقة هذه الظواهر ولا العوامل الدافعة إلى تكونها ولا الأسباب القابعة خلف تراكمها، فلا يؤدي الإنكار إلا إلى مزيد من تراكم الظاهرة، فتنتقل من دائرة الخطأ إلى مساحات الخطيئة. نظن أن الشباب قد تحمل الكثير، ونعذرهم بعد تلك الزلازل. لقد أسهمت هذه النخبة بسهم وافر في تفاقم هذا المرض الذي يتعلق بإحباط الشباب، فأدى ذلك إلى أن يكونوا جزءا من استقطابهم وحالة من تفرقهم، وتحول الشباب إلى هجاء بعضه البعض، وإلى شماتة كبرى، فغفل عن العدو والخصم الأساسي، ونسي الأمل الذي حمله في تغيير كبير وأمل فسيح.
ومن هنا، فإن المسألة التي تتعلق بضرورة تكوّن نخبة جديدة لهو من لوازم هذا الفيلم؛ الذي يشير إلى ذلك من طرف خفي بعد "سبع سنين" من حال الحيرة والضيق، تمثل في مشهد ختامي حينما قام هذا الشاب باصطدام عمدي لرأسه في ذلك الحائط السميك، تعبيرا عن هذه الحال الذي وصل إليها.. هذا الصوت غير المسموع من خبط رأسه في حائط الإحباط لم يكن في حقيقة الأمر إلا بطرق هذه المشاكل بصوت عالٍ وبمجهر مكبر، وهي تتعلق بممارسة تطرف عنف السلوك وتفلت فكر الإلحاد. وهناك أشكال أخرى لم يتطرق إليها الفيلم؛ ربما لأن هذه الأشكال الأخرى أكثر تدنيا من ذلك، وتمارس حالة من حالات العنف مع الذات. أليست ظاهرة الانتحار مثلا أو ظواهر التفلت الأخلاقي وانعدام الوزن الناتج عن كل ذلك؛ أيضا من الظواهر التي يمكن أن يشار إليها في هذا المقام؟
ومع ذلك، فإنني أطالب من قام على هذا الفيلم بأن يكتب حلقة ثانية؛ حلقة نماذج من صمود من مثل "أسرة البلتاجي" و"أسرة أحمد سيف الإسلام"، لتعبرا عن حالات مقاومة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنطفئ أو تنزوي، وتحرك مكامن صناعة الأمل في ثورة تغيير مستأنفة آتية لا ريب فيها، ستحمل هذا التغيير لـ"مصر الجديدة" في "دولة يناير". هذا الزخم أيضا الذي يتعلق بهذا التغيير لا يمكن أن يكون إلا بتمكين الشباب من تصدر المشهد والقيام بموجبات تغيير قادم.. "يقولون متى عسى أن يكون قريبا".
أضف تعليقك