بقلمِ: سليم عزوز
لا أستهدف من العنوان السخرية من الرئيس المخلوع، بل لم تعد لدي رغبة في ذكر هذا الوصف "المخلوع"، فمبارك بالنسبة لي صار تاريخاً، وليس المعقول ترك الخطر الداهم الذي يمثله عبد الفتاح السيسي والانشغال برجل لن يعود للسلطة حتى يلج الجمل في سم الخياط!
ما قصدته بـ"عودة الشيخ إلى صباه" هي أنها النتيجة التي توصلت إليها بعد التدبر في حال مبارك، وقد بدا ليس مهتما بشيء، وهو يدلي بشهادته، ولا مشغولاً بكاريزما الوظيفة السابقة، وكأنه لم يحكم مصر يوماً، وكأنه لم يكن "الحاكم الأوحد" على مدى ثلاثين سنة، وكأنه ليس معنياً بالتاريخ وما سيكتبه عنه!
لم يكن مبارك مشغولاً بالتاريخ أبداً، وذات يوم قال له أحد الكتاب إنه إن فعل كذا فسوف يدخل التاريخ، فرد عليه بما أربكه؛ إنه ليس مشغولاً بالتاريخ، ولا بما سيكتبه عنه، ولا يريده أن يكتب عنه شيئاً!
قدرات مبارك
جيلنا هو الجيل الأخير الذي يعرف حدود مبارك وقدراته المتواضعة، لكن الأجيال التي جاءت بعدنا بدأ وعيها بمبارك، ثم تقارن الآن بينه وبين السيسي، فتراه صاحب كاريزما، وأنه رئيس معتبر من حيث الشكل، وإن أخطأ أو أجرم، مثل عبد الناصر؛ الذي لا نختلف على أنه زعيم رغم جرائمه في مجال الحريات.
كانت مصر تبدو قبل هذه المرحلة دولة كبيرة شكلاً، قبل أن تهبط كلية إلى مستوى أن يتولى "الصايع الضايع" رئاسة حكومتها في عهد السيسي
وهذه الأجيال التي لم تعاصر قيمة مثل الدكتور رفعت المحجوب، ولباقته، وفصاحته، وسرعة بديهته، هي من ترى في فتحي سرور، رئيس البرلمان المصري على مدى عشرين عاماً، أنه "قيمة وسيما"، في حين أننا كنا نؤرخ به لانهيار الحياة السياسية بعد مرحلة الكبار، والتي انتهت بتعيين لص تافه رئيسا لوزراء مصر، والهبوط إلى مستوى القامات المنخفضة الذي بدأه مبارك مع الألفية الجديدة، لكبر سنه، وتدخل أفراد أسرته في الحكم، وهو الذي قضى ما قبلها مهتما بالشكل، ما دام لا يشغله المضمون! فكانت مصر تبدو قبل هذه المرحلة دولة كبيرة شكلاً، قبل أن تهبط كلية إلى مستوى أن يتولى "الصايع الضايع" رئاسة حكومتها في عهد السيسي.
مبارك هو نموذج الموظف الذي تتمثل كفاءته في انضباطه، وطاعة رؤسائه، وكان فاقداً للطموح، ولا يمتلك أي مهارة للإبداع عندما اختاره أنور السادات نائباً له، ولهذا السبب اختاره، وليس اعتماداً على شرعية أكتوبر ودوره فيها، فالضربة الجوية - كما قال هيكل - هي عمل من أعمال الوظيفة، وهو لم يكن الرجل الأول في الجيش في هذه الحرب، فلم يقع اختيار السادات على وزير الحربية، كما لم يقع اختياره على المشير عبد الغني الجمسي، وكذلك لم يقع اختياره على رئيس أركان حرب أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلي، ولم يكن قد دب الخلاف بينهما عند عملية اختيار النائب هذه!
لا يهش ولا ينش
وقد عبر عن الصورة المرسومة له في الوجدان الشعبي؛ الفنان سعيد صلاح، في بداية حكم مبارك، ودفع الثمن سجناً بتهمة تعاطي المخدرات، عندما قال في وصف حكام مصر الثلاثة على خشبة المسرح: واحد أكّلنا المش (يقصد عبد الناصر)، والثاني علمنا الغش (يقصد السادات)، والثالث لا يهش ولا ينش (يقصد مبارك)!
وكان السادات حريصاً على هذا الاختيار، وهو الذي اختاره عبد الناصر نائباً له لأنه لم يكن يختلف معه أبدا، وكان يجده حيث يريد. فأقرب الضباط الأحرار اختلفوا مع عبد الناصر إلا أنور السادات، لكنه كان فلاحاً ماكراً، "تمسكن حتى تمكن". وتقع المشكلة على من ظنوا أن السادات سهل الهضم، لذيذ الطعم، فأجمعوا على أن خلافته لعبد الناصر في مصلحتهم جميعاً. فالسادات كان من بين القلائل الذين مارسوا السياسة قبل ثورة يوليو، وفصل من الخدمة وعاد إليها بسبب ذلك، ومبارك لم يكن أكثر من موظف برتبة ضابط جيش، وكان اختياره نائباً هو أكثر أحلامه جنوناً، فلم يحلم بهذا أبداً، وقد تطور عنده ما اعتقده؛ عندما دعته الرئاسة لمقابلة مع رئيس الدولة. فقد قال في البداية أنه اعتقد أن الرئيس السادات سيختاره رئيساً لحي مصر الجديدة، وبعد أن أصبح رئيساً، قال إنه اعتقد أن الرئيس سيكلفه برئاسة شركة مصر للطيران، فظل الليل كله يسأل عن المرتب والبدلات والامتيازات المالية لمن يشغل هذه الوظيفة. وفي حواراته مع عماد أديب في دعايته الانتخابية لآخر انتخابات له، قال إنه تصور أن الرئيس سيكلفه سفيراً لمصر في لندن (بلد الاكسلانسات). ولم يُعرف عنه أن لديه ميل لأن يكون "اكسلانس"!
مبارك لم يكن أكثر من موظف برتبة ضابط جيش، وكان اختياره نائباً هو أكثر أحلامه جنوناً، فلم يحلم بهذا أبداً
وكان اختار السادات لمبارك لموقع نائب له؛ مفاجأة لمن يعرفون محدودية قدراته وعدم انشغاله بالسياسة، وهو ما قاله أحد الضباط الأحرار، ووكيل مجلس الأمة، والصديق المقرب من السادات، وقد اعترض بحدة على أنه لم يقع عليه الاختيار؛ ووقع على شخص ليست له دراية بالسياسة ولا يفهم فيها. وكان الاعتراض في وجود مبارك نفسه، الذي لم ينتصر لنفسه ويعترض على هذا الهجوم!
بل وصل الحال بجيهان السادات أن وصفته وصفا مهيناً، عندما طلب السادات من طبيب متخصص في القلب، كان يرافقه في إحدى سفرياته للخارج، أن يخوض الانتخابات البرلمانية، وقال الطبيب إنه مستعد لذلك في حالة واحدة، هي أن يفهم الناس أن السادات هو من دفع به للترشيح بأن يصحبه "سيادة النائب" في جولاته الانتخابية!
البقرة الضاحكة
إن المهندس عثمان أحمد عثمان، صديق السادات المقرب، كان لا يكف من السخرية من مبارك في جلساته، وهو الذي وصفه الوصف الشائع "البقرة الضاحكة".
وإذ لم تظهر عليه بوادر غضب تجاه الساخرين منه، فلم يكد يصل إلى كرسي الحكم حتى انتقم من الجميع، ومن كل من أساء له، وهو من كان يبدو غير معني بهم في عهد السادات! واعتصم عثمان أحمد عثمان بالجنون، حيث ادعاه ليحمي نفسه من الانتقام!
كانت هناك رغبة لدى قوى سياسية بعينها، أضناها النضال ضد السادات، في أن تروج له باعتباره كذلك، ثم كان حصار رئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي، الذي أخذه بعيداً عن الناس
لقد عملت الماكينة الإعلامية لتقديم مبارك بحسبانه الملهم، وكانت هناك رغبة لدى قوى سياسية بعينها، أضناها النضال ضد السادات، في أن تروج له باعتباره كذلك، ثم كان حصار رئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي، الذي أخذه بعيداً عن الناس، لتجاوز نقطة الضعف عنده في الجلسات المفتوحة، حيث يميل للغيبة وللجلسات المطولة!
كان يطلب أشخاصاً بأعينهم ليجلس معهم، لكن زكريا عزمي يحدد معهم مدة الجلسة بخمس دقائق، بحجة أن الرئيس مشغول. فعندما يهم الزائر بالانصراف، يعتقد مبارك أنها رغبة زائره. وحدث مرة في سنة 1987، أن استدعى القيادي بحزب العمل ممدوح قناوي ليفهم منه ما يجري في حزب العمل، بعد قراره التحالف مع الإخوان المسلمين، وحدد زكريا عزمي موعد المقابلة له بخمس دقائق، فلما تعداها، كان زكريا عزمي بالخارج، يمشي من أمامه بعصبية وينظر لساعته، ويلمح للزائر بضرورة الانصراف الآن، وفهم قناوي أنها إرادة عزمي وليست رغبة مبارك، فأخبره أن الدكتور زكريا يشير له بالانصراف، فهل يريده أن ينصرف فعلا؟ وكان أن استدعى مبارك زكريا عزمي، وقام بتوبيخه، وطلب منه إغلاق باب مكتبه لتستمر المقابلة أكثر من ثلاث ساعات!
بيد أن لقاء آخر استمر خمس دقائق مع الدكتور "محمد إسماعيل علي" بعد ذلك بسنوات، وإذ طلب منه الرئيس أن يتواصل معه هاتفياً، وأن زكريا عزمي سيعطيه رقم الهاتف الخاص به، فزكريا عزمي أخبره أنه لن يحتاج للاتصال المباشر بالرئيس، فإن أراد منه شيئاً فليتصل به هو! والرسالة معروفة، والمعروف لا يُعرف!
في الدائرة الضيقة
وعاش مبارك في دائرة ضيقة، ولم يكن مسموحاً لغير مسؤولين بعينهم باختراقها، وعندما تقرب منه وزير الأوقاف محمد علي محجوب، وبدا مبارك معجباً بأدائه، وكان يأتي له بكل علماء الأرض، في مؤتمراته الإسلامية، كانت المؤامرة عليه التي انتهت بعزله من الوزارة.
هذا ساهم في صنع كاريزما الوظيفة، لرجل مارس الاستبداد والنهب، ولم يعنه تاريخاً أو جغرافية، فسلم زعامة المنطقة للمملكة العربية السعودية
ولعل هذا ساهم في صنع كاريزما الوظيفة، لرجل مارس الاستبداد والنهب، ولم يعنه تاريخاً أو جغرافية، فسلم زعامة المنطقة للمملكة العربية السعودية، حتى عندما عُرضت عليه المصالحة مع بشار الأسد، قال اعرضوا الأمر على السعودية!
لقد مارس مبارك صلاحيات الوظيفة كرئيس كما ينبغي لمستبد تافه، يفتقد لأي نوع من الثقافة أو الوعي الفطري، وكانت مفاجأة لمن رأوه زعيماً، أن يروه بعد ذلك في الوضع البائس الذي حضر به جلسات محاكمته، استدراراً للتعاطف، فقد كان موظفاً عظيماً وخرج للتقاعد، فعاد غير مشغول بشيء بعد افتقاده للوظيفة، وعندما حضر للمحكمة شاهداً في قضية اقتحام السجون، لم يكن مشغولاً حتى بالانتقام، بل لم يهتم بشكله العام، فقد كان استخدامه لصبغة الشعر، وإزالة التجاعيد، لمقتضيات الوظيفة التي يستدعي شغلها أن يكون شاغلها قوياً، وشاباً، معافى من الأمراض، ألا وأنه قد فقدها، فهو ليس أكثر من رئيس على المعاش!
يا لها من نهاية أليمة، ويا لنا من شعب ننفخ في الدجاجة لنجعل منها ثوراً نهابه.
نحن من نصنع الآلهة ونحن من يعبدها.
أضف تعليقك