بقلم: عامر شماخ:
لم ينته (سيناريو) الانتفاضة الفرنسية حتى اشتعلت أختها فى السودان الشقيق، رغم ما بين الدولتين من مسافات وفروق؛ وكلتاهما قامت بسبب الغلاء وضيق الحال، وإن كانت الأخيرة قد صادفت عودة رئيس الدولة من زيارة مشبوهة لمجرم سوريا، السفاح ابن السفاح.
وقيام ثورة فى السودان واشتعالها إلى حد انتشارها فى عدد من الولايات، وسقوط شهداء ووقوع اشتباكات بين الجيش والشرطة من جهة والمواطنين من جهة أخرى - أمرٌ يستحق المراجعة والتحليل؛ إذ لم يكن فى الحسبان -أبدًا- أن ينتفض الإخوة السودانيون؛ ومن ثم تهب علينا ريح الثورة من الجنوب؛ لطبيعة سكان هذا البلد العريق الوادعة، ولبساطة عيشهم وعدم غلبة الجانب الحضرى وما يجلبه من توتر حياتى ومنغصات فى أمور الكسب، فضلاً عن خصوصية العلاقة بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة فى هذا البلد والتى لا تشهد حدة وصراعًا كما فى بلدان عربية أخرى..
لكنه القدر، الذى يحفظ الكون من الفساد، ويأذن بالتدافع ولو من غير أسباب، وكما طغى المستبدون فى البلاد وأكثروا فيها الفساد فإن الله ينفخ فى شعوبهم النشاط ليكون صراعًا بين هؤلاء وهؤلاء، والعاقبة فيه للأصلح، ولمن يزرع الأمل فى نفوس الناس، ويقتلع الإحباط ويعالج المرض والجهل والتخلف؛ ذلك الثالوث الذى خلفه هؤلاء المستبدون.
ولعل إخوتنا فى السودان قد وصل بهم الحال إلى درجة من الاختناق من هذا الحكم الذى فُرض عليهم بانقلاب عسكرى قبل ثلاثين سنة، وكانت الحجة تطهير البلاد من الفساد ومن قبضة الحاكم الديكتاتور، فإذا هم فى قبضة من هو أشد منه بطشًا وأعظم ريبة، لقد استلم السودان بلدًا واحدًا، واليوم صارت سودانين، شمالى وجنوبى، وما توقفت الحرب فى بلدهم يومًا واحدًا، وما شعر الناس بالأمن ساعة، وأصبح السودانى الذى يحتوى بلده خيرات لا حصر لها يطلب الخبز فلا يجده، ناهيك عن باقى الخدمات وعن حال الطرق والتعليم والصحة. وإذا كان المثل يُضرب بكثرة الأراضى البكر فى هذا البلد ومساحاتها الشاسعة؛ فإن المثل يُضرب به الآن فى الجوع والحرمان وانعدام فرص الحياة الكريمة. بلد كان فى يوم من الأيام هو (سلة غذاء العالم) يتسول حكامه الآن القوت يومًا بيوم بالقروض والمنح، ويعجزون عن الإنتاج حتى تهوى العملة إلى قيمة متدنية للغاية. بلد فيه ثروة حيوانية تفوق ما تملكه هولندا التى تصدر منتجات الألبان واللحوم للدنيا كلها، ورغم ذلك ترى إخوتنا وجيراننا فى حال يرثى لها من الحاجة وضيق العيش..
لأجل هذا أرى أن ثورة السودانيين لن تنتهى إلا بتغيير حقيقى، قد تكون على هيئة موجات متراخية أو متدافعة، لكنها خُلقت فى رحم القدر ولن تموت حتى تغير ما أراد الله لها أن تغير. ولعل وسائل الاتصال الحديثة هى ما تعطيها خبرات الثورات السابقة، وتنصحها وتحذرها باعتبارها أختًا صغرى لتلك الثورات وموجة جديدة من موجاتها؛ فمنذ انطلاق الثورة التونسية (14 يناير 2011) والثورات العربية تتوالى، والانتفاضات لم تنقطع، وما من بلد عربى إلا سيذوق طعم هذه الثورة، ذلك أنه نبت ربانى قد انزرع فى تلك البلاد القاحلة التى جردها حكامها التابعون من الكرامة والحرية والعيش الآدمى، ولن تزول هذه الثورات، ولن تتوقف هذه الانتفاضات إلا بعد خلع جميع هذه الديكتاتوريات.
وإذا كانت ثورات الربيع العربى قد انتكست فى مواجهة الثورات المضادة وجيوش الأنظمة الحاكمة؛ فهذا لا يعنى أبدًا أنها قد انتهت أو ضعفت، لم يحدث هذا ولا ذاك، بل يمتد أثرها، ويزيد فعلها، وما نراه الآن هو صراع بين الطرفين، تبدو فيه الغلبة للأنظمة وجيوشها، لكنى لا أراها غلبة، بل جعجعة إعلام وقعقعة سلاح، أما الغلبة الحقيقية فللشعوب التى تزداد فيها مساحة الوعى والإدراك، ويكثر فيها المعارضون لهذه الأنظمة الفاسدة، ويضيق الخناق على المستبدين، وتبدو سخونة المعركة فى فقدان تلك الأنظمة ما تبقى لديها من عقل، فصارت تقتل وتذبح من غير رحمة، وصارت تدفع الثمن ولو كان أرض الوطن فى مقابل الاعتراف بهم ونصرتهم على المصلحين.
إن ثورة السودانيين رسالة إلى شعوب العرب قاطبة تستحثهم تسريع التخلص من أنظمتهم العفنة؛ وهى رسالة كذلك إلى من يرأسون هذه الأنظمة؛ أن حافظوا على بلادكم إن كان فيكم ولو ذرة من انتماء، وأن لبوا نداء الشعوب فى الحرية والعيش بكرامة فى وطن هو وطن الجميع وليس تركة آبائكم ولا أمهاتكم، وأن انظروا ما فُعل بأمثالكم ممن ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب؛ فهرب بن على تاركًا الذهب والمال الذى سرقه طوال فترة حكمه، وقُتل القذافى شر قتلة وشتت أبناؤه ونساؤه من بعد عيش الملوك.. وسوف يأتى الدور على كل جبار يستهين بشعبه ولا يؤمن بيوم الحساب..
أضف تعليقك