بقلم: سكينة إبراهيم
جاوز الخامسة والستين من عمره ببضع سنوات، وفشا اللون الأبيض في رأسه يعلن عن تلك العقود العدة المتتابعة التي مرت فتركت أثرها علي هيئته وقارا وعزة، وعلى عقله علمًا وحكمة، وكما عودتنا قوات الانقلاب لا يشفع عندها سن أو شيبة أمام حملاتها المستعرة الحمقاء للاعتقال، وما هو أعلى منه في مراحل الانتهاك.. وقد كان هذا الشيخ المُعلم الكبير واحدا من هؤلاء الذين طالتهم يد الغدر تلك بالملاحقة ثم الأسر.
أمضى ليلته الأولى في تحقيقات وأسئلة كثيرة دارت جميعها حول الاستفسار عن رأيه في مجريات أحداث الخمس سنوات الأخيرة في مصر؛ لم يكن يتوقع أن هذا هو ما يبحثون عنه؛ فقد كانت أقرب إلى محاولات التقصي والتغلغل إلى عمق عما ثبت في قريرة نفسه من قيم ومعانٍ كلية، وها هو يعلن لهم وبكل بساطة ووضوح أن نفسه ما زالت حرة أبية ترى الحق نورا يضيء للعالمين سبيل الهدى؛ فإذا بسياط التعذيب تنزل ملتهبة خلف ظهره وتتسارع الأيدي لتكتب من فمه تلك الاعترافات منتشية بها فخورة وكأنها حازت صيدا سائغا سهلا؛ فكلماته هذه يمكنها أن تودي به ويمكن معها ضمان الإدانة أمام محاكم هزلية قد تأسست على نفس هذا المذهب الأخرق والمنوال!.
بعدها اقتادوه وعلى عينيه تلك الخرقة السوداء البالية إلى تلك الغرفة التي يجلس فيها إلى جواره أسرى آخرون، اعترفوا مثله باتباع الكرامة، وأدانتهم محاسن أخلاقهم وطيب معشرهم.
كان يظن أن هذا هو مبلغ الانتهاك الذي كان ينتظره، وأنه سيبقى في تلك الغرفة إذن مقيد الحرية إلى أن يأذن الله تعالى له بالفرج، ولكنه لم يكن يعلم أن الجلوس في مثل تلك الأماكن له قواعد أخرى لم تخطر لنفسه الرائقة الطيبة على بال؛ فقد كان من مستلزمات الأسر في مقرات الأمن الوطني أن يتم تقييد إحدى يديه في الحائط عبر هذا “الجنزير” الممتد لمسافة متر واحد، وفي نهايته أغلال من حديد غليظ يربط على المعصم بقسوة وغلظة تُنبيء عما في قلوب من أعدّوه من خصال وأخلاق.
وبالفعل فقد تحسس يده اليمنى، فإذا هي قد صارت مكبلة معقودة بالحائط، بحيث لا يمكنه التحرك في إطار تلك الغرفة أو حتى الوقوف مستقيم القامة، كل هذا مع تعصيب عينيه وفي الوقت نفسه عدم قدرتهما على النوم أو حتى الغفلة، في إطار تلك الجلسة المؤلمة، فضلا عن هذا البرد القارس الذي بدأ يشعر له بلدغات ونوبات قاسية.
تجمل مُعلمنا بالصبر والاحتساب، وقد أسند رأسه إلى الحائط، وحاول أن يسافر بخياله بعيدا عن تلك المحنة، ولكنه ما لبث أن انتبه على عجل، فقد أدرك أنهم قيدوا يده المصابة بجرح غائر لم يندمل بعد، وأن القيد يحتك بجرحه فيزيده إيلاما وتقيحا، كذلك هو يريد أن ينام على وضوء فربما ساعده ذلك على قيام ليلة في الصلاة والذكر والتسبيح، يستأنس بها عما يجد من مشقة وكدر، وقد كان في الساعات الماضية والتي مرت عليه كالسنوات، قد فطن إلى أن هناك أكثر من شرطي يقفون على باب غرفة الاعتقال تلك أو قريبين منها، فربما يمكنه بالفعل أن ينادي على أحدهم ليطلب منه أن يعدل موضع قيده، وأن يذهب به إلى حيث يتوضأ وينثر على جرحه الدامي بعض المياه. وبالفعل، أخذ في النداء حتى جاءه أحدهم، والذي يبدو أن تلك المهمة موكلة إليه ليلا، وبالفعل قام بفك قيده لدقائق معدودة اصطحبه فيها لدورة المياه، ثم أعاده إلى قيده مرة أخرى بعد ما يشبه طرفة العين.
ولأن ساعات الليل أكثر طولا على الأسير من غيره، فما كادت الساعة الأولى أن تمر إلا وتجددت لديه نفس المطالب، ومن ثم فقد أعاد الكَرة، وأخذ في النداء على السجّان، فإذا بالأخير يدخل عليه محتقن الوجه مكفهرا عابسا كأنما يعاني من لدغة عقرب سام، يصرخ في وجهه وهو على حاله تلك، ناعتا إياه بأقبح ما يمكن لأذن الكريم أن تسمعه من صفات، وتوقف سمع معلمنا الأسير عند قول السجّان: [هل تظنني هنا أعمل “داداة” لك]، حتى لم يكد ينتبه لما جاء بعدها من كلمات، فقد بلغت تلك الجملة وحدها من الإهانة في نفسه كل مبلغ، وأحاطت به تتردد في أذنيه مهولة تلك التي صدرت من هذا الذي هو في عمر أصغر أبنائه، يهين بها تلك العقود الفارقة بين عمريهما، ويهيل التراب على شامة الوقار والنضج المكبلة رغما عنها بين يديه، لم ينتظر أن يدير الشرطي ظهره له وهو يفارقه غائظًا مستمرًا في التفوه بتلك الخبائث النابية التي تصدر من شفيته، بل أسند رأسه إلى الجدار يستدعي ما يضمره قلبه من معاني الصبر والأناة والحلم، يطبب بهما على كبريائه المكسور ونفسه الجريحة، ثم تذكر محاولته السابقة في استدعاء الخيال ومصاحبته للخروج به والسفر رغم المحن، وقد بان أنه نجح في تلك المرة، فقد بدأت تلوح أمام عينيه سماء زرقاء صافية غير محدودة الأطراف والزوايا فلا تحيطها جدران، ولا يسد أفقها أبواب أو سجّان، ولكن الغيوم ملأت صفحتها علي حين غرة، حتي حجبتها بالكلية تقريبا وظهر وكأنها تداعت عليها من كل حدب وصوب، ثم ما لبثت كوة أن انبلجت من وسط تلك الغيوم، وتسللت منها أشعة الشمس المشرقة فملأت الأرض نوار وصباحا مبينا، صاحبته أذنيه كذلك في تلك الرحلة العلوية، وكأنها تسمع من يردد حولها قوله تعالي:” أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ”.[النمل: 62]، فاستجاب لسانه لهاتف أذنيه وأخذ يردد خلفه، لاهثا بالدعاء تلو الدعاء، واثقا بصدى لكلامته تنشق له القيود وتحمله النسائم في السحر وتندفع راكضة به عبر الأفق.
جاء الصباح في قلب معلمنا وإن كان لم يوقن بعد هل بدأ اليوم الجديد أم لا، لأن عيني نظره مازالتا تحت القماشة البالية، أما عين قلبه فقد أبصرت ما هوّن عليها وربط علي جرحها وزادها بأن رفع عنها الألم، حيث تسلل وانصرف وكأنه غلام بار ائتمر فلبي وأطاع!.
لم ينقضِ الضحي من هذا النهار بعد، إلا وقد صدر قرار بترحيل هذا الأسير وعرضه علي النيابة والتي أخلت سبيله من فوره؛ فانصرف إلي بيته موفور الصحة معافي، ولم يمر علي اعتقاله سوي يوم واحد وبضع ساعات وسط دهشة الجميع وتعجبهم..!
أضف تعليقك