بقلم قطب العربي
جريمة قتل سبعة مواطنين مسيحيين في المنيا (جنوبي مصر)، عقب عودتهم من زيارة دينية لدير الأنبا صمويل، ليست الأولى، فقد سبقتها جريمة أفظع في المكان ذاته قبل عام، ولا نرجم بالغيب إن قلنا إنها لن تكون الأخيرة؛ في ظل استمرار الأوضاع الحالية على ما هي عليه.
تسيل دماء المسيحيين، وتسيل معها دموع الغاضبين والمستنكرين والمعزين، ولكن هذه الدموع لا تكفي لوقف تلك الدماء، بل المطلوب عمل حقيقي، يوفر الأمن والأمان للمسيحيين والمسلمين في بلدهم، وهذا ما يحتاج إلى تضافر جهود كل المخلصين للوصول إلى هذه الحالة المرجوة.
الجريمة مدانة بكل المعاني، مهما كان مرتكبها، ومهما كانت دوافعه، فهذه الدماء بريئة ومعصومة، وهي ليست مجرد مياه حمراء، وليست هي التي ستحقق للقتلة ما يصبون إليه، أو يحلمون به. وهذا التنظيم الداعشي الذي أعلن مسؤوليته عن الجريمة هو تنظيم إرهابي، لا يقتصر أذاه على المسيحيين، بل إنه قتل من المسلمين أضعاف أضعاف من قتلهم من المسيحيين. ولا تنطلي علينا تبريراته التي يحاول بها تغطية جريمته، فمرة يقول إنه ينتقم لأهل سيناء الذين يشارك في قتلهم، ومرة يدعي أنه يثأر لسيدات الإخوان المعتقلات، في حين أنه يكفّر الإخوان، ولا يتورع عن قتلهم أيضا. ولذلك، فإن إدانة الجريمة ينبغي أن تكون واضحة لا لوع فيها ولا تشويش، كما أن التفريق ضروري بين مقاومتنا للحكم العسكري الاستبدادي، وما يرتكبه من جرائم بحق الأحرار والحرائر، وبين مشروع داعش الذي يناقض كل المشاريع السياسية الإسلامية القائمة، بل يعتبرها جميعا عدوا لا يقل عن أعدائه من الحكومات، وأجهزة المخابرات العربية و العالمية.
في أيار/ مايو من العام الماضي، ارتكب التنظيم ذاته مجزرة أفظع بحق الأقباط في المكان ذاته، راح ضحيتها 29 مسيحيا، كما ارتكب مذابح أخرى بحق المسيحيين، أيضا المسلمين، في أماكن أخرى (قتل 300 مسلم في مسجد الروضة فقط). ومع تكرار هذه الجرائم، يتأكد القصور الأمني الذي يسمح بتكرارها في الأماكن ذاتها التي وقعت فيها من قبل، أو الأمكن الجديدة، ومع ذلك لا تتم محاسبة المقصرين، بل تستمر المكافآت والحوافز لهم، والتي تميزهم عن غيرهم من موظفي الجهاز الإداري في الدولة.
ارتكبت الكنيسة القبطية خطأها الأكبر بدعم الثورة المضادة لثورة يناير، ودعمها لانقلاب عبد الفتاح السيسي لأسباب طائفية؛ تتعلق بكراهيتها للرئيس المدني محمد مرسي والجماعة التي ينتمي إليها، رغم أنه لا الرئيس ولا جماعته ارتكبا جرائم بحق المسيحيين، بل كانا حريصين كل الحرص على تبديد مخاوفهم، وطمأنتهم على حاضرهم ومستقبلهم. وقد حرص الرئيس مرسي على اختيار قبطي لأول مرة في تاريخ الجمهورية المصرية وفي تاريخ الأقباط؛ مساعدا للرئيس، وهو المهندس سمير مرقس الذي كان آخر موقع قيادي له هو أحد نواب محافظ القاهرة بعد ثورة يناير2011. كما أن حزب الحرية والعدالة الذي ينتمي له الرئيس مرسي؛ اختار قياديا مسيحيا لتسيير أعماله بعد اعتقال رئيسه الدكتور سعد الكتاتني، ناهيك عن اختيار عدد من المسيحيين بالتعيين في مجلس الشورى وفي المجالس القومية، مثل القومي لحقوق الإنسان والأعلى للصحافة.. إلخ.
رغم الأمان الحقيقي الذي عاشه الأقباط بعد ثورة يناير وفي حكم الرئيس مرسي (باستثناء بعض الحوادث التي لا تقارن مع ما يحدث حاليا)، إلا أن قيادة الكنيسة والعديد من الرموز المدنية القبطية انحازت إلى جهود تعطيل الرئيس، والانقلاب عليه، وكان رأس الكنيسة مشاركا في المشهد الانقلابي يوم 3 تموز/ يوليو 2013، وسخر كل إمكانيات الكنيسة ورجال الأعمال المتعاطفين معها لدعم الانقلاب، وتحريضه على قتل معارضيه، وهو ما ولد مرارات كبيرة في نفوس الكثيرين من هذا الموقف، الذي تسبب - ولا يزال - في قتل المسار الديمقراطي، وتعطيل العودة للحياة المدنية.
العقد غير المكتوب بين القيادة الكنسية ونظام السيسي يقضي بتوفير الدعم الشعبي المسيحي مقابل توفير الأمن وتحقيق المطالب للأقباط، وخبرة السنوات الخمس الماضية تؤكد إخلال السيسي بهذا العقد، حيث أن فترة حكمه هي الأسوأ تاريخيا للمسيحيين من حيث عدد وحجم الجرائم الإرهابية التي تعرضوا لها، والتي لم تستطع سلطة السيسي وشرطته منعها.. صحيح أن السيسي سن تشريعا لتقنين أوضاع الكنائس التي بنيت من قبل بالمخالفة للقانون، وأصدرت حكومته مؤخرا قرار بتقنين أوضاع 120 كنيسة عقب عودته من زيارة نيويورك التي لم يستقبله فيها سوى الحشد الطائفي الذي رتبته الكنيسة بإشراف البابا تواضروس شخصيا، لكن الأصح أن المسيحيين كانوا ليحصلوا على هذه الحقوق بشكل طبيعي جدا، دون مجاملة من أحد في حال وجود حكم مدني حقيقي يحترم القانون والدستور وحقوق المواطنة، وهو ما كانت بدايته قد ظهرت في مصر قبل الانقلاب المدعوم كنسيا.
جريمة تنظيم داعش أو غيره من التنظيمات بحق المسيحيين ليست مبررة، بل مدانة بكل المعاني، لكن موقف الكنيسة الداعم للانقلاب على الحكم المدني مدان أيضا بكل المعاني، وهو الذي يمنح غطاء لداعش وغيرها لقتل المزيد من المسيحيين، رغم أن داعش نفسها لا تؤمن بالعملية السياسية وتكفّر من يؤمن بها، وفي القلب منهم جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الإسلامية، لكنها حين تقتل المسيحيين فإنها تتوهم أنها بذلك تؤلم النظام الذي يحميهم، كما تتوهم أن جريمتها قد تغري بعض الشباب المحتقن بسبب القمع بالانضمام إليها. وربما كان بيانها الأخير الذي ربط ارتكاب الجريمة بالتضامن أو الثأر للحقوقيات المعتقلات نوعا من خلط الأوراق، وتحريضا غير مباشر للنظام لمزيد من التنكيل بالإخوان، ومغازلة - في الوقت نفسه - للشباب المحبط من انسداد طرق التغيير السلمي. وحسنا فعلت جماعة الإخوان المسلمين بمسارعتها بإصدار بيان يدين الجريمة الإرهابية ويطالب بسرعة كشف الجناة ومحاسبتهم.
يخطئ من يتصور أن تكرار الجرائم بحق المسيحيين وقتل المئات أو حتى الآلاف منهم سيمحو وجودهم من أرض مصر، أو يدفعهم للهجرة منها، كما يخطئ من يتصور من المسيحيين أن استمرار انحيازهم للسيسي سيوفر لهم أمنا وأمانا. ولا طريق أمام المصريين إلا عيش مشترك، وود متبادل حفظ هذه العلاقة عبر مئات السنين، وسيحفظها إلى يوم الدين.
أضف تعليقك