بقلم.. سليم عزوز
هو "ابن موت" بحسب المعتقد الشعبي، وإن كان يخالف هذا المعتقد في تعريف من هو "ابن الموت"، فابن الموت هو من يقال عليه إن الموت اختطفه، سواء طفلا أو شابا، وذلك لامتلاكه من سمات في الشكل وفي الخلق، لا تتوفر في غيره، وصاحبهم يفتقد لكل هذا. ولا يقصد بالموت في حالته مفارقة الروح الجسد، فالمقصود موت تجربته في الحكم!
في اللحظة التي اختُطف فيها الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، كان "محمد بن سلمان" انتهى، سواء تقرر خروجه حالا من السلطة، أو تأخر هذا القرار لبعض الوقت، فعزله هو القرار الكاشف وليس المنشئ لحالة أنه "انتهى". وقد مات جمال عبد الناصر في حزيران/ يونيو سنة 1967، لكنه مع هذا انتظر ثلاث سنوات أخرى، ليشيع جثمانه إلى مثواه الأخير، فصدور "شهادة الوفاة" من الطبيب المختص لا تمنع أن الوفاة تمت قبل تحرير الشهادة وتوقيعها!
مشروع قصير العمر بطبعه؛ لأنه ينتمي إلى الأزمنة الغابرة، وقد يتجاهل المجتمع الدولي قيامه باعتقال أبناء عمومته تحت لافتة القضاء على الفساد؛ لأن القابع في البيت الأبيض سيصب في جيبه الجزء الأكبر من الثروة المصادرة، وقد يتجاهل العالم قيامه باعتقال دعاة، بحجة أنه يتبنى مشروعا إصلاحيا، وقد انتهى مشروع هؤلاء الدعاة؛ لأنه كان مرتبطا بإرادة القوى المهيمنة، سواء بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية؛ الوريثة لها في المنطقة، وكما قال الفتى بعظمة لسانه، إنهم دعموا المذهب الوهابي لأن الإنجليز والأمريكان طلبوا منهم هذا!
وقد لا يرى العالم في اعتقال مغردين ومغردات جريمة كبرى تستحق التدخل، فالغرب بطبيعته هو الراعي الرسمي للاستبداد في المستعمرات القديمة، لكن المذكور فعل ما لا يمكن السكوت عليه، باختطاف "خاشقجي" وقتله، فأرّق الضمير الحي بهذه الفعلة النكراء، لا سيما بما أحيط بهذه الجريمة من ملابسات، وتصوير عملية القتل التي انتهت بنشره بالمنشار، وتقطيعه إربا، في لحظة اختلطت فيها الأوراق، والتفت الساق بالساق، فلم نعلم ما إذا كان الجاني يمثل سلطة حكم، أم زعامة عصابة، مع الاعتذار للعصابات، فلكل مهنة تقاليدها وإن كانت سيئة السمعة، وتقاليد العصابات تمنع من ارتكاب هذا الفعل مع شخص ذهب إليهم برجليه آمنا، ومسالما!
لم تتحرك الأنظمة الغربية، بمن في ذلك ترامب نفسه، إلا بقوة ضغط الإعلام الذي ندد بما جرى، وجعل الرأي العام على اطلاع به. وقد وقعت الجريمة في وقت حملة الدعاية لانتخابات الكونجرس، والحزب الجمهوري على "رأسه بطحة"، فهو الراعي لولي العهد الذي جاء متخطيا الرقاب بالإرادة الحرة لترامب، وقد دفع لهم الثمن من لحم الحي، ويطمع الفتى أن يزيد، فندد الجمهوريون بالجريمة، حتى لا تتخذ في الدعاية ضدهم، وعندما تخوف الرأي العام من قيام ترامب ببيع الدماء المراقة، والعظام المنشورة، إذا ببيان دول الثلاثي "بريطانيا" و"فرنسا" و"ألمانيا"، يجعل من القضية، وقد تم تدويلها، أكبر من أنقرة، وأكبر من ترامب!
لقد تدخل الملك سلمان في الوقت بدل الضائع، واتصل بالرئيس التركي بعد ثلاثة عشر يوما من ارتكاب الجريمة، تعالى فيها القوم على تركيا ومن فيها، وبعيدا عن اللغة الدبلوماسية التي صدر بها البيان السعودي، فالملك تحرك لينقذ ما يمكن إنقاذه؛ فاته أن القضية لم تعد شأنا تركيا، ولم تعد تختزل في أنها اختراق لسيادة بلد يدفع بالسيئة الحسنة في تعامله مع أهل الحكم في السعودية؛ الذين لم يتركوا لهم حبيبا في المنطقة، إلا محمد بن زايد؛ الذي يدفع بولي العهد السعودي ليُنهي الحضور السعودي، بعد غياب مصر، ومنها انتقلت زعامة العالم العربي للمملكة، بل وزعامة أهل السنة، وهذا هو بيت القصيد!
بحسابات "تجار المواشي"، فإن محمد بن سلمان هو الخيار الأفضل لترامب، الذي يتصرف بجلافة، ويفرض "الإتاوة" على الحكم السعودي، كأي قاطع طريق، ثم يجد في هذا ما يدعو للتفاخر والمباهاة؛ فيعلنه وسط تصفيق صفيق من أنصاره، وربما حرك جينات "الكابوي" في القوم، التي ظلت لعقود غاطسة والظاهر هو مجرد غلاف رقيق من الحضارة والمدنية، بيد أن العرق دساس!
سعي ابن سلمان لتخطي الرقاب، ومخالفة القواعد التي تنظم الحكم داخل الأسرة الحاكمة في المملكة، هو أمر يفوق أكثر أحلام ترامب جنونا.. لقد دفع ابن سلمان كثيرا ليكون وليا للعهد، لكن قرار الخلافة مؤجل، بما يتفق مع نهج "تاجر المواشي"، فقد لا يتحصل ترامب على شيء إضافي عما كان يحصل عليه أسلافه في البيت الأبيض، إن هو أوفى بالوعد وسمح للملك بالتنحي، والتنازل عن الحكم لنجله!
ومع هذا، فإن ابن سلمان خذل ترامب بإقدامه على جريمة اختطاف "جمال خاشقجي"، وبما أكد بذلك أنه عبء على المستقبل، فالمملكة العربية السعودية، ليست دولة من آحاد الدول، وهذا الاختيار وإن كان وفق متطلبات "تاجر المواشي"، فإنه لا يمثل خيارا مناسبا بالمقاييس الاستراتيجية، ولهذا أعربت إسرائيل عن خيبة أملها، وبدت قلقة، ليس خوفا من سقوط ابن سلمان بعد جريمة اختطاف "خاشقجي"، وأن تكون الجريمة سببا في عزله، ولكن لأنه ظهر "صغيرا" أكثر مما توقعت!
في بلاد أخرى قد يكون من الأفضل أن يكون الحاكم صغيرا، ليكون أداة لتنفيذ الأوامر، وربما لإهانة الدولة نفسها، لكن في الحالة السعودية فالأمر مختلف؛ لأن المطلوب منها استمرار دور زعامة المنطقة، مع وجود الولاء لمن في البيت الأبيض، وبما لا يعرض مصالح إسرائيل للخطر؛ لأن في سقوط السعودية كدولة قائدة، سيفتح الباب لزعامات خارجية، حيث المنافسة الإيرانية - التركية على زعامة العالم الإسلامي، بما ليس في صالح واشنطن واسرائيل!
و"بالبلدي"، المطلوب أن يكون على رأس السعودية "ضابطا"، وكل مقومات الفتى تؤهله لأن يكون "مخبرا" مع الرأفة. صحيح أن "ترامب" يدعم في الاتجاه الأخير، لكن الرئيس الأمريكي لا ينظر إلا تحت قدميه، وللدقة فإنه لا ينظر أبعد من جيوبه، وفي جميع الأحوال لم يكن يعتقد أن العبث سيدفع باختياره أن يكون عبئا عليه بهذا الشكل الذي ظهر بجريمة اختطاف "خاشقجي"، الأمر الذي أقلق اسرائيل على مستقبل الحكم بالسعودية. وبهذا الهوان، سيترك فراغا للتمدد التركي، والإيراني، وهو ما يزعج تل أبيب!
في الأخير، فإن "محمد بن سلمان" ليس هو الشخص الذي يملأ مركزه، أو أن يكون امتدادا لنظام آل سعود، ربما لأن رؤية خارجية رأت أنه لتسويقه غربيا ينبغي أن يتخلص من الإرث الديني للحكم السعودي، وتكمن المشكلة في أن معادلة الحكم هب التي مكنت السعودية من أن تكون لها قيمة في محيطها العربي والاسلامي، فماذا بإمكان المعادي لهذا الإرث أن يفعل؟ وماذا يملك لاستمرار هذه القيادة؟!
لقد كانوا في تل أبيب وواشنطن يمنون أنفسهم بأن يكون خيارهم وقع على ضابط صغير، ليكون أداة طيعة في تنفيذ الأوامر وأن يسرف في الدفع، لكنه تحرك على أنه في حدود "المخبر"، أو عسكري المراسلة، ثم ها هو يقدم على جريمة تؤكد للعالم عدم أهليته للحكم!
لقد تحرك والده في الوقت بدل الضائع، لينقذ ما يمكن إنقاذه، بالاتصال بالرئيس التركي، لكن العالم الآن وصلت لأسماعه جريمة خطف صحفي وقتله ونشر جسمه بالمنشار، وأي كلام على غير الحقيقة تتوافق عليه السلطات التركية والسعودية، لن يقنع هذا العالم المتحشد، والذي لن يرضى إلا بعزل ولي العهد، وذلك أضعف الإيمان. قد ينتج عن التوافق إخفاء بعض الأدلة لأنها مفجعة، ومنها أن ابن سلمان كان حاضرا الجريمة بالصوت والصورة، وأنه عندما سُحب "خاشقجي" إلى الغرفة الأخرى كان ابن سلمان يسمعه من الكلام أحقره؛ قبل أن يُنهي حديثه بالتصرف كما هو متفق، لكن تغييب مثل هذه الأدلة لن يبعد الاتهام بأنه صاحب قرار الخطف وما نتج عنه من آثار!
وقد يتحرك ترامب لحمايته، لكنه مع هذا "انتهى"، ويصبح القرار الرسمي بعزله هو من مجرد إجراء شكلي، لا يمنع من أن العزل الحقيقي قد تم، والمتبقي فقط هي مراسم تشييع الجنازة لمثواها الأخير!
إنه ابن موت!
أضف تعليقك