سألت امرأةٌ الخليفةَ أبا بكر الصديق: «ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس».
فالمستقر لدى كثير من الناس في كل عصر، أن الناس على دين ملوكهم، فإذا صلُح الراعي وعَدَلَ صلُحتْ رعيّتُه، وإن استبَدَّ وفَسَدَ فسدَتْ رعيته، وهو أمرٌ تتسع دائرته ليشمل كل نظام فيه الحاكم والمحكوم بصرف النظر عن الدين، وقد رُوي أنه في عهد أنوشروان الملك الفارسي العادل، لو أن رجلًا ألْقَى في مكان حِمْلًا من ذهب، وبقي مهما بقي في موضعه، لم يقدر أحد على إزالته إلا صاحبه.
وكما لا يخفى فهذا نظائره في التاريخ الإسلامي، ومنها ما ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» بشأن غنائم الفُرس العظيمة التي أرسلها سعد بن أبي وقاص لأمير المؤمنين عمر، إذ نظر الفاروق إلى كثرتها قائلا: إنَّ قومًا أدّوا هذا لأمُناء، فقال علي بن أبي طالب: إنك عففت فعفّتْ رعيتك، ولو رتَعْتَ لرَتَعَتْ.
وفي المقابل ترى في القرآن الكريم بيان تأثير الحاكم المستبد على فساد شعبه كقوله تعالى «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى» (طه: 79).
غير أن هذه النظرة التي تعبر عنها المقولة الشهيرة (الناس على دين ملوكهم) ليست وحدها في الفكر الإسلامي، فهناك أخرى تقابلها، اشتهرت بين الناس قديمًا وحديثًا بنص نبوي «كما تكونوا يولى عليكم»، والحق أنه لا يثبت صحته للنبي «صلى الله عليه وسلم»، إلا أن معناه صحيح نسبيا وجرت به العادة في أحيان كثيرة، فالحاصل أن التخلف والاستبداد والفساد ليس بالضرورة أن يتحمل مسؤوليته الحاكم وحده.
في مكة 1316هـ، عُقد مؤتمر حضره جمع من السياسيين والمثقفين منهم عبد الرحمن الكواكبي لبحث أسباب تقهقر المسلمين، اتخذ كل منهم كُنْية أو اسما مستعارا كاحتراز أمني، فقال من يُعرف بالموْلَى الرومي: تحميل التبعة على الْأُمَرَاء فَقَط غير سديد، خُصُوصا لِأَن أمراءنا إِن هم إِلَّا لفيفٌ منا، فهم أمثالنا من كل وَجْه. وصدق، فإن الحكام لم يأتوا من كوكب آخر، إنما هم نتاج بيئاتهم، ومهما تدخلت عوامل خارجية في تسلط الحاكم المستبد، فسوف تبقى تُواجهنا حقيقة أنه خرج من الأرض ذاتها، بما يعني إسهام الشعوب في صناعة المستبدين.
نعم إن الشعوب تتحمل شيئا من تلك المسؤولية برضاها بالأمر الواقع، ومشاركة شرائح واسعة منها في تعظيم الأنا الفرعونية لدى كل حاكم، فشأنهم معه كما قيل يأسرهم فيتهللون لشوْكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويُهينهم فيُثْنون على رفعته؛ ويُغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم ولم يُمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأُباة قاتلهم كأنهم بُغاة.
لقد كان الزعيم والمفكر البوسني علي عزت بيغوفيتش بصيرًا لمّاحًا للعوامل المُتفشِّية التي تُسهم في صناعة الاستبداد، فعندما دخل المسجد لصلاة الجمعة متأخرًا أفسحوا له الطريق ليصل إلى الصف الأول كما تعود، فقال قولته الشهيرة: هكذا تصنعون طواغيتكم.
ومن أعظم إسهامات الرعية في صناعة الاستبداد هو استبداد الرعية ذاتها، استبداد المرء على نفسه وأهله ومن حوله، والكواكبي رغم أنه في كتابه «طبائع الاستبداد» تناول استبداد الحكومات بأشكالها، إلا أنه لم يغفل مسألة استبداد الرعية، وناقش السؤال المطروح: لماذا يبتلي اللهُ عباده بالمستبدين، فقال إنه لو نظر السائل نظرة الحكيم المُدقق لوجد كل فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدا في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، تابعين لرأيه وأمره، فالمستبدُّون يتولاهم مستبدّ، والأحرار يتولاهم الأحرار.
ربما أظهرت ثورات الربيع صورًا عديدة من استبداد الشعوب، حتى في الفترات التي تخلصت فيها من الحكام الجائرين، فصار البأس بينهم شديدًا، وطفحت على السطح الأمراض الاجتماعية المستوطنة، استفحلت بعد انقضاض الثورات المضادة لإعادة إنتاج الديكتاتوريات. حتى القوى المعارضة لأنظمة الثورات المضادة، هي الأخرى بدورها لم تسلم من صبغة الاستبداد، وكثير منهم، إلا من رحم الله، أعماهم الانتصار للرأي عن النظر إلى الآراء الأخرى، وتهاونوا في التراشق بالتهم، وصارت بضاعة أحدهم سلخ الآخرين أحياءً على مواقع التواصل، بذريعة تطهير الصف الثوري، ثم يدعون مواجهة الاستبداد! ألا في الاستبداد سقطوا.
شكا بعض الرعايا إلى المُستعين بن هود (أحد حكام ملوك الطوائف في الأندلس) من بعض عماله (ولاته)، فناب عنه الشاعر في الجواب:
لَا تنسبوا الْجور إِلَيْهِم فَمَا … عُمالكم إِلَّا بأعمالكم
تالله لَو ملكتم سَاعَة … لم يخْطر الْعدْل على بالكم
ربما يتمّ اتهامي كالعادة بالتناقض، خاصة أنني كتبت مقالا منذ أشهر قليلة بعنوان الدعوة الفاجرة، انتقدت فيها تلك الزمرة من أدعياء العلم والأبواق الإعلامية للأنظمة الجائرة عندما حمّلوا الجماهير مسؤولية الفساد، وغلاء الأسعار والتدهور، وقلت إنها تكريس للظلم الاجتماعي، وأنا ما زلت على رأيي هذا، ولكن أقوله في ضوء المسؤولية المشتركة للحاكم والمحكوم عن الاستبداد والفساد، فكلاهما له دوره، وليس البحث في مسؤولية طرف إلغاءً لمسؤولية الطرف الآخر.
فكما أن تحميل الشعوب وحدها المسؤولية نوعٌ من التكريس للظلم والتبرير للاستبداد، فكذلك تحميل الحكام وحدهم المسؤولية نوع من الدعوة إلى تجاهل الشعوب مسؤوليتها وفرْض حالة من الخمول واللامبالاة والاستسلام للأمر الواقع انتظارًا لمقدم الحاكم العادل
أضف تعليقك