بقلم: د. سيف عبد الفتاح
في المقالة السابقة التي تتبعنا فيها حديث الفجوات، ختمناها بحديث عن ضرورة أن تكون هناك نخبة شبابية تتخذ من موضوع التمكين والتصدر للمشهد؛ لتحدث بذلك نقلة نوعية لمواجهة هذا النظام الفاشي، ذلك أن النخبة العتيقة لم تحسن التعامل مع الثورة أو الانقلاب، ولم تقدم تلك الرؤية الناجعة للتعامل مع معطيات الموقف الجديد وما يتطلبه من مسالك متميزة للفعل الثوري. أكثر من ذلك، أن تلك النخبة قد تحدثت بكل أصنافها كثيرا عن تمكين الشباب، إلا أنها ظلت بدرجة أو بأخرى تصادر بعض أدوارهم ولا تقيم وزنا لكثير من خياراتهم، تلك النخبة لم تحسن التفاعل مع الجماهير ولا مطالبها، وانحصرت في أفعالها في إطار سياسي كما فهمت هي السياسة، مختزلة إياها في المؤسسات ولم تتدبر معنى السياسة بأنها معاش الناس حتى تتواصل معهم وتعلي من ضروراتهم.
والحق، أن الشباب حينما تصدر مشهد ثورة 25 يناير، أصدر نداء تقليديا في مسيراته نحو الميادين "يا أهالينا انضموا لينا"، كان هذا النداء يعبر بحق عن افتقار الشباب في مطالبتهم بالتغير إلى ظهير يتعلق بحاضنة شعبية ممتدة، وكان على هؤلاء الذين يديرون عملية التغيير أن يتلقفوا هذا الحس الشبابي في إطار تبني تلك المطالب الجماهيرية، إذ ظلت تلك المطالب محصورة بشأن السياسة المتعلقة بالسلطة كشأن ضيق لم يستشرف معنى السياسة بالمعنى الواسع باعتبارها معاش الناس.
هكذا ظلت النخبة تنظر للشباب كالشعب تماما، لم ينضج بعد، بل إنه هو ذلك الشباب الحالم الذي يعاني من مثالية مفرطة ومن خيال جامح في التفكير والتغيير، ومن ثم ظلت هذه النخب كما فكرت بمنطق الوصاية على شعب، فاستأثرت كذلك بفعل الوصاية على الشباب، وبرز هؤلاء يقدمون أنفسهم بمشهد سموه "لجنة الحكماء"، ليعبروا بذلك عن تصور الحكماء الأوصياء الذين عليهم ألا يتركوا الزمام لهذا الشباب الشارد المتمرد. ومن هنا، نجح العسكر في تعامل مريب وخطير مع الثورة والاحتجاج الشبابي ضمن عملية احتواء كبرى، وقدموا ذلك في مشاهد عدة سياسة حصار وسياسة التواء وسياسات استبعاد، بدت كل تلك المشاهد دالة في هذا المقام، وصارت النخبة تصدر ذات خطاب العسكر، ساخرة من ذلك الشباب الناشط، وصارت تسمية النشطاء وكأنها محل سخرية واستهزاء، وصدروا ذات الخطاب إلى الشعب؛ لصورة الشباب الذي لا يعجبه شيء، المتمرد أبدا، الطائش دائما، فاستدعوا حكمة الحكماء.
لم تكن حكمة الحكماء في عرفهم إلا مؤتمرات لبناء المستقبل، ولكنهم وضعوا على رأسه شابا تخطى سن الثمانين، وهو سيجمع هؤلاء للحديث عن المستقبل! كان يغلبه النعاس، ربما كان ذلك أمرا مقصودا، إنه الحكيم النائم الذي يهدئ من روع الشباب ومن أسلوب حركته وسرعته، إنه اللجام الأسلم لطيش الشباب، وهنا كان المقصود تجميد حركة الشباب الواعدة والواعية لتسير على مقام ذلك الشيخ العجوز النائم الذي يغلبه النعاس، فتحول الأمر من جدوى ثورة متحركة إلى شباب يدفعون الشيخ العجوز إلى اليقظة.. كانت كل آمالهم أن يظل مستيقظا حتى يمكنهم أن يطرحوا بعض أفكارهم وبعض آمالهم في التغيير.
أما ذلك المشهد الثاني الذي جمدوا فيه حركة الشباب، فكان في اختيار رئيس مجلس الوزراء ليحتوي الشباب ببعض كلامه، وقد أكدوا أن رئيس الوزراء هذا هو اختيار الشباب، ولكنهم فعلوا كل شيء لتقيد حركته وضبط مساره. إنه لا يتحرك خطوة إلا بعد إذن المجلس العسكري.. هكذا طوعوه، اطمأن هؤلاء إلى أن وقع خطى رئيس الوزراء مضبوطة على وقع خطاهم لا يغادرهم قدر أنملة، إنه غير مستعد أن يمثل الثورة في مطالبها، ولكن عليه أن يكون من الحكمة فلا يغضب العسكر الأقوياء. مرة ثانية، كان ادعاء الحكمة يفرض أسلوب حركة لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع حركة شباب ثائر ناهض، وإنما حركة تنفيذ مختلطة بالتنفيس، ولكنها في النهاية تضبط الإيقاع على حركة العسكر.
وبدا هؤلاء يتعاملون مع الشباب في إطار يحتوي ما أسموه وقت ذلك بانفلاتهم، عبروا عن ذلك آنذاك بالانفلات، بينما عبر عن ذلك مدير مخابراتهم بعد ذلك، والذي اعتلى السلطة بعد انقلاب، بأنها لم تكن إلا حالة فوضى وأنه لن يسمح بفوضى مرة أخرى. إنه ينشد الدولة والاستقرار، لم يكن يعني بذلك إلا محاولة لتفريق الشباب. قام المجلس العسكري ممثلا في مخابراته الحربية بعمل دنيء وحقير، رصد طاقة الشباب الفاعل وحاول تشويههم في كل مقام ومجال، ثم أغرقهم ضمن عشرات من التنظيمات الشبابية المفتعلة والمصطنعة وأسماهم جميعا شباب الثورة. لم تكن تلك إلا خطة، خطة لتمييع المواقف والمطالب، ليفلت هو من الموقف الثوري، كأن الرسالة كانت توجه إليهم "أنكم لستم فقط بالثوار"، واختلط الحابل بالنابل، وتاه الثوار في غابات الافتعال والاصطناع والوقيعة، وباتوا يقدمون هذا ويؤخرون ذاك، فتعاملوا معهم بأحقر طريقة، وانزوت تلك النواة الصلبة (أو تكاد) لحركة الشباب الثورية، وباتت الأمور طوع يمينهم، يفعلون ما شاؤوا ويقدمون من أرادوا، ويحبطون كل أمل يتعلق بتغيير حقيقي. بين التشويه والتذويب، تعاملوا مع الشباب الحقيقي في الثورة.
ثم أتوا بأخطر مشهد بعد ذلك، أتوا برئيس وزراء من حفريات جراب رجال مبارك المخلوع، فوق الثمانين ليقضي على البقية الباقية من ثورة الشباب. وللأسف الشديد، انزلق الشيوخ عن بكرة أبيهم في لعبة العسكر، وقد كانت لديهم القابليات لذلك، وبات هذا التلاعب بالقوى الشبابية هو ديدن العسكر، بل أقاموا ساحة صراع بين الشباب والنخبة العتيقة من كل اتجاه.. المدني قبل الإخواني، وصار الأمر بعد ذلك بحراك مقصود وصناعة صورة يجعل هذا وذاك من الشباب حالة مستعصية. إنهم لا يتسمون فقط بالطيش، ولكنهم نشطاء السبوبة، والنخبة العتيقة منشغلة بالانتخابات، والعسكر منشغلون بتمكين سلطانهم، وسلطتهم والشباب منهمكون في الدفاع عن أنفسهم، بات الأمر معقدا وشديدا.
وصاروا يتلمسون خيال الثورة وظلها وهي تفلت من بين أيديهم، فاستطاعوا أن يقيموا أيضا كل مداخل الفرقة فيما بينهم، إنها لعبة العسكر والنخبة، ذهب الشباب ضحية هذه اللعبة، ومع ذلك ظل شعار تمكين الشباب مرفوعا في محاولة منهم أن يجعلوه مجرد شعار فارغ، فارغ المضمون وفارغ التأثير في عملية تغيير ممتدة.. تحكّم العسكر في مفاصلها، وصار كل شيء وفق مخططهم، وتوالت الأحداث التي كانوا وقودها الشباب، وبدت الاستقطابات ليست بين النخبة وبعضهم على اختلاف قواها السياسية وتوجهاتها، ولكن بين الشباب وبعضهم البعض، بل وبين المجتمع وكل فئاته، فتسرب لدى كل هؤلاء أن الثورة ربما ضلت الطريق، بينما ظل غالب هؤلاء يرفعون شعار زائفا لتمكين الشباب، ولم يكن أبدا في خطتهم أو في سياستهم أن يمكنوا، وانزلقت النخبة إلى ذات التصور وتحول الشباب من شباب ثائر إلى شباب حائر، ثم كانت خطة العسكر أن يحوله للأسف الشديد إلى شباب محبط خائر.. إنها الخطة الجهنمية في تمكين الشباب على الطريقة العسكرية، وللقصة بقية.
أضف تعليقك