بقلم: سليم عزوز
تحولت جريمة قتل الأطفال إلى ظاهرة، في وقت يجري فيه التغني بأن عبد الفتاح السيسي قد حقق الأمن والأمان في ربوع المحروسة، بعد سنوات من الانفلات الأمني، الذي كان بفعل فاعل بعد الثورة!
فلا يكاد يمر أسبوع دون أن نصدم بالعثور على طفل أو أكثر مقتولين في مصر، ويتم التعامل مع ذلك باستخفاف أمني بالغ، ربما نتيجة العجز عن التوصل للجناة الحقيقيين. فالأمن بعد الانقلاب العسكري انصرف لمهمة واحدة، وهي حماية كرسي عبد الفتاح السيسي، وكان هذا على حساب الأمن الجنائي!
الأزمة أن قضايا قتل الأطفال واختطافهم، من الكثرة بحيث ينسي بعضها بعضا، وربما لا ينافسها في ذلك سوى الاعتقالات المتكررة. فهل لا يزال أحد يتذكر والدة "زبيدة" التي تحدثت تلفزيونيا عن اعتقال ابنتها، لتظهر في فيلم لم تقنع وقائعه أحدا، ليتم اعتقالها، بعد أن تحول جهاز الأمن إلى خصم وحكم في الوقت نفسه؟ وهل لا يزال أحد يتذكر اعتقال المستشار هشام جنينة، بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال، نتج عنها أنه تحول إلى جان، بدلا من كونه "مجنيا عليه"!
هل لا يزال أحد يتذكر اعتقال رئيس حزب "مصر القوية"، والأمين العام للحزب؟ وهل لا يزال أحد يتذكر اعتقال غيرهما ممن لم يقدموا لمحاكمة، ويتم التجديد لهم كإجراء روتيني دون محاكمات حقيقية، بعد أن تحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة في حد ذاته؟!
لقد تحول جهاز الأمن إلى طرف في قضية "محمود نظمي" المتهم بقتل طفليه، الذي فعل كل ما في وسعه من أجل إقناعنا بأنه قاتل طفليه، ومن خلال التسريبات الأمنية في البداية. فمرة أن "نظمي" قتلهم لأنه يشك في سلوك زوجته، وهو ما تم التراجع عنه سريعا، ثم القول بأنه يعاني من مرض نفسي دفعه لذلك؛ فهو بحسب المنسوب إليه أراد "تخليصهم من مساوئ الحياة"، والأمر لا يمكن قبوله إلا باستدعاء المرض النفسي. فالأب القاتل يقرأ في كتب خاصة بتحضير الجان، ثم كان اللجوء إلى الاعتراف المسجل صوتا وصورة وبثه للرأي العام، لعله يقتنع بالراوية الأمنية!
بيد أن الرواية لم تقنع أحدا، وخرجت المظاهرات في قريته تندد بالجريمة، وتنفي عن "محمود" قتله لطفليه، فلا بد أن تكون هذه الاعترافات وليدة إكراه. وانطلق الأمن، وقد جعل من نفسه طرفا في موضوع القضية، ليؤدب القرية، وقد اكتشف أن هناك تعديات في البناء ونحو ذلك، فذهب يزيلها بالقوة الجبرية، ودون محاكمة، لكن تصريحات ذويه صفعت الآذان. فهناك اتهام لمن وصفوا بالكبار، بأنهم وراء قتل الطفلين، فمن هم الكبار؟ ولماذا لا يعتبر هذا خيطا يمكن تتبعه للوصول للجناة الحقيقيين؟!
فمن هم الكبار؟.. وما هي مصلحة الأمن في هذه القضية؟!
الإجابة على السؤال الخاص بمصلحة الأمن في اتهام "محمود نظمي" بقتل طفليه، يكون بسؤال آخر: هو وما هي مصلحة وزارة الداخلية في اتهام "محمد عبد اللطيف" بقتل عشرة أفراد في سنة 2005، وتم إطلاق لقب "سفاح بني مزار" عليه، واعتبرها وزير الداخلية حينذاك قضية مرتبطة بشرفه المهني، وتبنى الراوية ولم يكن أحد يجرؤ على التشكيك فيها، لولا أن الله قيد للمتهم محاميا كان وقتها يتعامل على أنه خصم للنظام، وهو الراحل طلعت السادات، وقبل أن تنتهي الخصومة باتصالين هاتفيين من مبارك به في أثناء إجرائه لعملية بالقلب، قبيل قيام الثورة مباشرة!
واللافت أن السيناريو نفسه في الواقعتين واحد، لم يجر عليه تجديد، لانعدام الكفاءة في التلفيق، وهو الأمر الذي كان يتمتع به جهاز الأمن المصري، فكان هناك جهد يُبذل من أجل التزوير والتلفيق، فانعدمت الكفاءة وقابل هذا زيادة وعي الناس!
لقد قدموا الشاب "عبد اللطيف" متهما، الذي اعترف بارتكاب الجريمة، ثم قالوا إنه مريض نفسي، لتبرير ارتكابه لجريمة بشعة دون مبرر، وصدر تقرير من طبيب نفسي يفيد مرضه، وأنه يعالج من هذا المرض!
وتم الاحتماء في المرض النفسي، فالمريض النفسي لا يحتاج إلى مبرر لارتكاب جريمته، وليس مطلوبا منه رواية متماسكة لإقامة الدليل عليه، فجاءت اعترافاته أقرب للهذيان، وهو المطلوب إثباته، فعندما يُسأل: لماذا قتلتهم؟ يرد: "قتلتهم وخلاص!"، ثم يقول إن من بين من قتلهم صديقا له ولعائلته، ليكون السؤال: "ولماذا قتلته؟" ليكون الجواب: "قتلتهم وخلاص!".
والأمر كله يدخل في إطار عدم المعقولية، فالضحايا عشرة أفراد، ومن قتلهم هو فرد واحد، وهم يقيمون في بيتين، وقد دخل صاحبنا البيت الأول فوجد من فيه نياما فقتلهم، دون صراخ، ودون مقاومة، فقد نحر الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، قبل أن ينتقل للبيت المجاور، فوجدهم نياما أيضا فقتلهم جميعا، ولم يحدث أن استيقظ نائم، فالجميع كانوا غارقين في النوم حتى فرغ "عبد اللطيف" من التخلص منهم واحدا واحدا، "وهم رقود".
وقد حدث هذا في ليلة انقطعت فيها الكهرباء عن المنطقة التي يقيم فيها الجاني والضحايا، وبالتالي فيتعذر أن يوجد شاهد يقول أنه رأى المتهم خارجا أو داخلا، أو أن أثار الجريمة كانت على ثيابه، ولم تكن هناك قرائن قدمتها وزارة الداخلية على ارتكابه للحادث سوى "فردة حذاء"، تحولت إلى نكتة في المحكمة. وقالت الوزارة إن ثوب القاتل كان ملطخا بالدماء بعد هذه المجزرة، بيد أن التيار الكهربائي كان مقطوعا، فلم يشاهده أحد، وقد ذهب إلى جارته فقامت بغسل ثيابه، فاختفت آثار الجريمة، فماذا عن "فردة الحذاء"؟!
الاستخفاف هو ما سيطر على أداء وزارة الداخلية، فلم تأخذ أمر الدليل الوحيد بجدية، والمتهم بين أيديهم، ولعلها إرادة الله، التي جعلت من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا!
عند فض الأحراز، ولم يكن الحرز سوى "فردة الحذاء" سالفة الذكر، كان الصخب قد ملأ أرجاء المحكمة، وحاول القاضي بصعوبة السيطرة عليه، بسبب طلب الدفاع من رئيس الهيئة القضائية أن يسمح للمتهم بأن ينتعل الحذاء المنسوب إليه، الذي تقول وزارة الداخلية إنه عثر عليه في مسرح الجريمة، وهو الأمر الذي ظل لجلستين، ساد فيهما الهرج والمرج في المحكمة، بين الحاضرين للمحكمة من وسائل الإعلام وغير ذلك، وهم يشاهدون الحذاء لا يتسع لضيقه لقدم المتهم، وكان رد النيابة والحاضر عن الشرطة أن خوف المتهم حال دون قدرته على تنفيذ المهمة بسهولة، وطلب "طلعت السادات" ساخرا من رئيس المحكمة أن يأذن بمساعدين لمحمود لمساعدته في مهمة انتعال الحذاء، وقد جرى التأجيل لجلسة أخرى يكون فيها المتهم أكثر ثباتا بما يمكنه من المهمة بسلام، وفي الجلسة الثانية فشل أيضا.
الاستخفاف هو ما سيطر على أداء وزارة الداخلية، فلم تأخذ أمر الدليل الوحيد بجدية، والمتهم بين أيديهم، ولعلها إرادة الله، التي جعلت من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا!
المدهش أنني أستمع لأصوات الآن تتحدث عن "حبيب العادلي" باعتباره رجل أمن محترف، ولا أدري أين الاحتراف هنا؟ وهذا ليس موضوعنا!
فالنائب العام، وإذ ساير وزارة الداخلية في اتهام "محمد عبد اللطيف"، فأحاله لمحكمة الجنايات محبوسا، فإنه لم يسايرها في موضوع المرض النفسي، وشكل لجنة من أطباء نفسيين أقرت بأن المتهم لا يعاني من أي أمراض نفسية، ولا أدري لماذا لا يعاقب الطبيب المزور في هذه الحالة، وقد كان أداة طيعة في يد وزارة الداخلية، وسببا في اقتراب حبل المشنقة من بريء؟!
بيد أن دليل البراءة لم يكن فقط في هذا التقرير، أو في استبعاد دليل ارتكاب الجريمة ممثلا في "فردة الحذاء"، ولكن أيضا في أن المجني عليهم العشرة، تثبت فتح بطونهم بطريقة علمية واستئصال أعضاء من أجسادهم. إنها تجارة الأعضاء البشرية التي يتم غض الطرف عنها لأسباب غير معروفة، والتي بدأت في المستشفيات، وأنهت على صديقنا الراحل الدكتور "وجيه الكاشف" عندما اصطدم بالمافيا، بعد عودته من لندن، وظن أنه يستطيع بالشكوى والبلاغات أن يهزمهم، فاكتشف أنه يواجه عصابة عنقودية، فهزموه، وقضى حياته متنقلا بين نقابتي المحامين والصحفيين، وفي المساء يتنقل بين مقاهي وسط القاهرة، فإذا أغلقت نام على أحد كراسيها، قبل أن يصاب بالجلطة ويغادر الدنيا، وقد ترك الطب وتفرغ لتقديم البلاغات، لكن من يسمع لرجل يهذي؟!
وفي قضية مقتل الطفلين، قرأت كلاما متناثرا عن تجارة الآثار، التي بات من الواضح أنها تحولت إلى ظاهرة في السنوات الخمس الأخيرة، فمن وراء صفقة التهريب التي ضمت 22 ألف قطعة آثار مصرية إلى إيطاليا، وقامت السلطات هناك بضبطها، دون أن نسمع عن تحقيق جرى في مصر بعد عودتها دون أن يكون للسلطات المصرية فضل في هذا. من جمع كل هذه القطع وغيرها؟!
والعلاقة بين تجارة الآثار وتجارة الأعضاء البشرية واضحة، عند التلاعب بقيمة إحدى الصفقات فلا يعوض قيمتها المرتفعة، سوى التجارة في أعضاء المتلاعب نفسه.
وقد يكون مقتل الطفلين انتقاما لأسباب لا نعرفها، لكن معرفة هذا لا يكون بتبني الأمن لرواية وإصراره عليها، مع أن الجنين في بطن أمه لا تنطلي عليه هذه الرواية، وإن حمتها القوات التي تقوم بترهيب الأهالي الذين تظاهروا في قرية المتهم بقتل طفليه.
عندما تتوصل وزارة الداخلية إلى الجناة في مذبحة بني مزار، بعد براءة المتهم، ساعتها قد نوقن بأنها ستعمل على التوصل للمتهمين في قضايا قتل الأطفال واختطافهم!
وعندما نتذكر احتشادها وراء اتهام "محمد عبد اللطيف"، نفسر هذا الاحتشاد وراء رواية الأب هو من قتل طفليه!
وقبل هذا كله، لا تنس أن السيسي حقق الأمن في مصر!
أضف تعليقك