ثمة إشكالية كبيرة في التصورات على صعيد العلاقة بين النخبة والجماهير، ممتد من الذاكرة التراثية وحتى الفترة المعاصرة. ففي كل الحالات كانت الجماهير في عرف النخبة، إما قاصرة تحتاج إلى قيادة تمسك زمامها، وإما مقموعة لا تستطيع أن تعبر عن إرادتها، أو أنها سلبية يمكن شحنها وتعبئتها، أو هي غافلة يجب أن تدفع دفعا بالشدة والعنف نحو أهداف الأمة العليا، ويمكن استدعاؤها كلما كان ذلك ضروريا للنهوض بمشاريع الأيديولوجيا النخبوية، كما يؤكد بعض من درس النخب خطابها وأفعالها إلا أنها في كل الحالات تظل تابعة لا متبوعة، منفعلة لا فاعلة، مفعولا بها بل مفعولا مطلقا، هم العامة الذين لا يعون والجياع حينما يثورون، وغير مؤهلين حينما تحين ساعة التغيير أو استحقاقات الديمقراطية.
هذه الصورة النمطية للشعوب والجماهير لدى النخبة مثلت بحق فجوة في التفكير وفجوة في التدبير والتسيير، وفجوة في التغيير والتأثير، هكذا لم تعد الجماهير قاطرة الأيديولوجيا التي تتشدق بها النخب أيا كانت أفكارها، بل باتت هذه تناقض توجهات الجماهير وتستدعي قمعها وعدم الانصياع لها، وهو ما يحدث الآن في دول الانتفاضات حيث تعمد السلطات المستبدة التي تمثل تلك الحالة الطغيانية إلى سحق الجماهير ولو بأبشع الأساليب وأكثرها وحشية، إلا أن النخب التي اعتادت التنظير والنخب السياسية التي تدعي معرفتها بكيف يكون التغيير؟، ثمة إشكال كبير إذا بين تصورات النخبة وأوهامها وواقع الجماهير وتطلعاتها، إشكال لا يمكن الخروج منه من دون إعادة نظر في تعامل هذه النخبة مع الجماهير والإصغاء إلى نبضها، والنظر إلى المجتمع على انه الغاية في حد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق أهداف النخبة وتصوراتها، والكف تاليا عن الديماغوجية والتبشير الأيديولوجي على حساب الواقع والتاريخ والحقيقة، على تلك النخب أن تتعلم من الجماهير أن السياسة هي شأن الناس وما يتعلق بمعاشهم وضروراتهم، السياسة في أهم تعريفاتها هي معاش الناس.
إنها الفجوة بين النخبة والجماهير حينما تستعلي تلك النخبة عليها واصفة إياها بالجهل والأمية، وأنها فاقدة الوعي والمسئولية، ومن ثم تملك النخبة عليها عقلية وصائية، لا تستطيع الجماهير أن تستقل بنفسها وكأنها لم تصل بعد لسن رشدها، ألم تر هذا في تصور العسكر حينما روج إلى تلك الاعتمادية في تلك الصورة الشهيرة والمقصودة، الصورة فإنها تتكلم بأمور كثيرة تستنطق هذه الصورة من غير أي كلام أو بكلام قليل الصورة وصناعة الصورة وضغط وقع الصورة بما تمثله من رمزية يمكن أن تشكل حالة ضاغطة بالصورة في هذا المقام يمكن أن نشير إلى مثل نموذجي تلك الصور التي شاعت إبان فترة تسير المجلس العسكري بعد ثورة يناير وتنحي مبارك المخلوع في يوم 11 فبراير 2011 انتشرت صور على الحافلات الأتوبيسات تتحدث عن أن "الشعب والجيش إيد وحدة"، كانت تلك الصورة تحمل صورة الضابط وهو يحمل طفلا رضيعا والذي يمثل الشعب، ويترافق مع ذلك خطاب "نور عنينا"، "هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه"، نظن أن تحليل الصورة وتحليل السياق وتحليل الكلام إنما يشكل مثلث غاية في الأهمية في التأثير والترويج، في ظل تفسير العقلية المتعالية والوصائية في آن واحد.
ومن جراء هذه العقلية الوصائية من قبل النخبة بكل أصنافها من النخبة الثقافية ومن النخبة السياسية على حد سواء فإن اللغة الاتهامية لدى هؤلاء هي لغة غالبة وهم غالبا حينما يفشلون لا يحيلون الفشل إلى أنفسهم أو طريقة تفكيرهم ولكنهم من الأيسر عليهم وضمن افتراض هذه العقلية الوصائية أن يتهموا الناس والجماهير، إنهم لا يتسمون بالوعي ويتسمون بالأمية والجهل وغالبا لا يدركون مصالحهم ولا تبعات عملية التغير، هذا هو الأيسر بالنسبة لهم، وهم في كل مرة يخرجون من كل اختبار كما يتصورون هم في حالة نجاح ويسندون الرسوب والفشل إلى الشعب والجماهير فهم ليسوا على المستوى المطلوب وأنهم اعتادوا الخضوع والخنوع فإذا اشتق واحد منهم فإنه يمكن أن يصفهم بكل الأوصاف التي يصفهم بها المستبد ما بين حالة العبيد وعقلية القطيع، النخبة في عرفهم لا تخطئ والجماهير دائما هي القاصرة الغافلة.
كما أن هذه النخبة تزيف الأهداف للجماهير والأولويات التي تضعها، حتى أي تغير يحقق مصالحها ويؤكد على مطالبها ويطالب بضرورياتها وحاجتها، إلا أن النخبة ضمن الحالة الوصائية يحددون مصالح الجماهير بالنيابة عنهم وأيضا بالاستقلال عن مطالبهم ويتحدثون عن الانتخابات والديمقراطية ولا يتحدثون عن المعاش والضرورات الحياتية، هكذا تبدوا النخبة في حال انفصال سواء في تصوراتها أو في تحديد المطالب والأهداف أو تصورها للجماهير المطلوبة للتغير، النخبة بهذا الاعتبار متعالية، مغالية مدعية، إنها دائما تنادي على الجماهير حتى تنضم عليها، لم تفعل يوما من الأيام أن تنادي عليها الجماهير وتذهب النخبة فتنخرط فيها ولكنها في كل مرة يمكن أن تستهتر بمطالب الناس والجماهير شأنها شأن استخفاف المستبد بمطالب الجماهير الحقيقية.
إن مطالب النخبة في وادي وضرورات الجماهير في واد آخر، ولكنه استعلاء النخبة، استعلاء خطير يفصل بين النخبة والجماهير ويجعل هذه الفجوة تزداد فيما بينها، فلا تتحقق بأي حال الشروط الكبرى لعملية التغير حينما تلتحم النخبة بالجماهير وتنخرط في عالم مطالبهم وتؤكد النخبة أنها رغم ما تقوم به من دور فهي تمثل حال الجماهير كيانا وأهدافا ومطالب، لم نرى في يوم من الأيام أن ذلك قد تحقق على الأرض رغم ذلك الدرس الذي أعطاه الشباب في ثورة يناير والذي كان درسا بليغا حينما جعل من كل شعارات يتصدرها " الشعب يريد "، هذا كان مما يخيف المستبد ومن ذلك أيضا كانت النخب أخوف وكأنها تفر من ذلك الشعب ومن مطالبه فكيف إذا يمكن أن تتحقق الحاضنة الشعبية والظهير الشعبي في عملية تغيير كبرى؟!.
إن هذه النخب القديمة لهذا التفكير الكلاسيكي الذي لا تغادر فيه أوصاف المستبد للشعوب والجماهير ولكنها في فائض كلامها والديباجة التي تصدر بها خطابها ما زالت تتحدث عن الناس والجماهير ولكنها تتحدث فقط، وعندما تفشل تسارع بوضع اللوم والاتهام على الجماهير وعلى الشعوب، إنه تفكير لتلك النخبة لا تغادره ولا تغيره، ومن ثم فإن الأمر قد يحتاج إلى نخبة شبابية جديدة تحمل ما حملته من شعار يتعلق بالعيش والكرامة والحرية والعدالة، إنها الرباعية التي تؤسس للشعب السيد لا توارب في ذلك ولا تمتهن هذا الشعب أو تنظر له نظرة دونية، هذه النخبة الشبابية هي النخبة المستحقة والتي يجب أن نقوم بصياغتها وصناعتها بحيث تنخرط في عموم الناس وتحمل مطالبهم وتأتي الجماهير لا تنتظرها، إنه الأمر الأساسي الذي يتعلق برؤية تلك الفجوة، فجوة النخبة والجماهير، هذا الجانب هو جانب من هذه الأزمة وللأزمة وجه آخر نستكمله في مقال قادم.
أضف تعليقك