بقلم سكينة إبراهيم
نسعى في تلك الأسطر إلى استخدام مدخل منهجي نطلق عليه “الاستبقاء للفحص”، ويعني النظر إلى الوقائع التاريخية نظرة غير المتعجل؛ بل المتأمل المتدبر الساعي إلى تجاوز منهجية السرد بماذا كان وكيف كان، وإنما الباحث عن إجابة لسؤال وماذا تبقّى..؟
الأمر الذي يكمن الرد عليه في الحدث نفسه بتداعياته التي ما زالت تصنع أثرا، كما تكمن أيضا في المعنى والفكرة اللّتين ربما تحولتا إلى قبس من هدي ننظر بهما حين تدلهم علينا وتختلط طرق النجاة..
*****
ومذبحة “رابعة” لم تكن حدثا عاديا يمكن لنا أن نستعيدها كأية مرثية درامية احتفظ بها التاريخ، وإنما كانت نقطة شديدة الخصوصية علي مسرح ثورات الربيع العربي بأكمله. فمن ناحية كانت باعتصامها الرباني المبدع تطورا شديد الإيجابية في إستراتيجيات “اليد الفارغة من السلاح” التي تميزت بها ثورات تونس ومصر علي وجه الخصوص، فقد امتدّت بها الثورة من التحرير إلى “رابعة” مرورا “بالنهضة” وغيرها من الميادين لتعيد إنتاج الثمانية عشر يوما التي قضاها المعتصمون في ميدان التحرير عام 2011 حتى يتحولوا إلى ثمانية وأربعين يوما فيتطور بهم ومعهم شكل الفكرة الرمزية للاعتصامات والأدوار التي تؤديها، بل ومساحة الجلد والصبر التي يمكن للمصريين أن يتحلوا بها في ظروف كانت أقسي وأشد بكثير من التحرير، بل وتحت تهديدات وشت بنفسها شيئا فشيئا بسيل من الدماء في مذابح مصغرة في كل من الحرس الجمهوري، والمنصورة، والمنصة.
حيث كشفت الاعتصامات عن مساحات كبيرة من الابتكار والتميز، سواء من حيث المؤسسات الاجتماعية والخدمية التي أسستها، أو من حيث الطاقات النفسية الكبيرة لتقبل التحدي وإقرار مواجهته بالحسنى إلى أبعد حد.. إنه نموذج يثبت أن الكوامن الإيجابية في النفس البشرية ربما تكون أكبر مما يتوقعه كل علماء النفس والإجتماع علي مر العصور..
أما الأمر الثاني الذي يجعل ذكرى “رابعة” نقطة تحول فهو كونها كانت طاقة الضوء التي أفشت هذا الحجم الهائل من المؤامرات المحلية والدولية التي تترصد الوطن العربي بأكمله، وفتحت الأعين على تلك الخيوط المتشابكة التي ينسجها المتآمرون حول بلادنا منذ عقود، وفضحت بجلاء قدرا غير قليل من المتعاونين معهم البائعين مصالح بلادهم وأهليهم لأعتى الأعداء..
ولأن ما سبق يؤكد أننا هنا في ذكرى غير تقليدية، فإن ما تبقى منها في الفكر والوجدان لابد أن يكون غير مألوف مثلها، فماذا عسانا الآن أن نستبقي من تلك الأوقات، ليستمر معنا في حياتنا الحاضرة ومستقبلنا؟!
إن أجل ما يمثل إطارا حاضنا للألم يهونه علينا ويرطب بمعانيه السامية من لظى القلوب المحترقة كمدا؛ حين نعرف أن الدماء الغالية ما يزال عبق مسكها يعطر الأجواء.
نقطة ارتكاز
وأول ما يمكن أن نستبقيه ونلحظه من “اعتصام رابعة” هو توقيته الإضطراري في شهر رمضان المبارك، وما يستتبع ذلك من شعائر معينة في هذا التوقيت بالذات، ما بين الفرائض والواجات والسنن والنوافل، كل هذا في خضم الجو شديد الحرارة والذي من المؤكد أنه يزيد من مشقة الصوم خصوصا، والشعائر التعبدية بوجه عام، وهنا كان الاختيار الغير نمطي؛ حيث لم يستغن المعتصمون عن أي من الهدفين، فقد استطاعوا بجدارة الجمع ما بين مناسك الصيام والقرآن والقيام، وفي الوقت نفسه أبدعوا في آليتهم الاحتجاجية والتي لم يظهر أنها بنت ليوم أو بضعة أيام وتنتهي.
إن الأمر بتأمله لا يتوقف عند حد الصبر في الجو شديد الحرارة، وفي الوقت نفسه الإتيان بالشعائر، وإنما هي تلك الإشارات الغير خافية على هذا الجهر بالجمع بين متطلبات الدنيا، وشعائر الدين، بل إن التعبير الصحيح لن يفرق إذن بين هذا وذاك، لأنه سيفهم أن كلا من الحرية والحفاظ على الأوطان مقاصد إسلامية، كما في ذلك تلك المطلوبات الشعائرية النسكية..إنه التطبيق المباشر للمنهج، والذي يلفظ عن كاهله بجلاء هذا الفصل التعسفي بين الدنيا والدين، ويعلن بوضوح: أن هناك دينا قويما لن ننفر منه، ولن نطويه مختبئا في عباءة أو مسبحة وثوب صلاة.
أفصح هذا الفهم عن نفسه بشكل أكبر بكثير؛ بحيث صارت “الربانية” و”التكافل” والحديث عن “الشهادة” وتذكرها من المعاني الأصيلة التي تميز بها الإعتصام، والتي أعلنت عن نفسها بكل طلاقة وبلا مواراة وأكدت عمليا كونها جزءا أصيلا من هذا الدين الحنيف وأنها كمساحات قيمية وأخلاقية يُتعبد بها لله عز وجل.
إن التأكيد على هذا المكون التعبدي في الممسارات السياسية وخاصة تلك التي تمثل نمطا تغييريا جذريا مباشرا، ربما يعد هو في حد ذاته نقطة فاصلة في عالمنا العربي بعد أن ظل لسنوات طويلة يتخفف أو ربما يتنصل من هويته الإسلامية الحقيقية خاصة في خطابه أو فعله السياسي، وسوف يمثل هذا نقطة ارتكاز للاتكاء عليها في تطوير هذا المسار وتحويله من مجرد نقطة إلي خطة عمل متكاملة تستكمل التنظير الحديث لممارسات سياسية ذات مرجعية إسلامية واضحة؛ ليس فقط في الحكم أو في المعارضة، وإنما في إنتاج وتطوير نظرية للمقاومة المبدعة بشكل عام، تلك التي تخضع الآن في العالم كله لتطورات هائلة، ولابد أن يكون للمرجعية الإسلامية منتجها الخاص في هذا الإطار..
الإرث العظيم
حين يتوفى أحدهم ورغم مرارة الألم لفراقه؛ إلا أن هذا لا يمنع مستحقي إرثه أن يأخذوه خالصا مباركا، فرغم أن تلك الأموال لا تنسيهم مصابهم في فقيدهم، إلا أنها قد تطيب خاطرهم بل وتزيد من وشائج العلاقة بالمتوفى رغم الموت؛ فيتذكرونه بالمزيد من الدعوات والصدقات والبر.
إن الأحداث العظيمة “كرابعة” وغيرها ورغم ما لها من مشقة وكدر، إلا أنها بمثابة سجل حافل بقصص الصمود والتضحية والشجاعة، إنه الميراث الهائل من النماذج والقدوات في التطبيق العملي للأفكار والمناهج، فيمكن لقصة واحدة من بطولات “رابعة” أن تكون أنفع وأجدى من ألف مقال، ومئات الدروس من الوعظ.
إن الكثير من الأمم الحديثة لتحاول بشتى الطرق أن تصنع لنفسها تاريخا تليدا تفخر به، أو تربط به الأجيال لديها فتدعم في قلوبهم دواعي الانتماء وبواعث الأصالة، كما أن البلدان ذات العراقة التاريخية التي انتكس قطار شأنها وسيادتها، لتعيد علي أبنائها قصص ماضيها المنقضي رغم انفصال تأثيره في حاضرهم وحياتهم الراهنة.
أما “رابعة” فهي ذلك الماضي القريب الذي حق لكل من انتمى إليه أن يفخر، بما حمله من عزة السعي والبحث عن حرية الوطن، في وقت سَمته العام هو الإنغماس في الفردية والانكفاء حول الذات بمتطلباته المادية.. إنها قصة بحيرة المياه الدافئة وسط جبال الثلوج العاتية، وقطرات الندى المتساقطة على جذع النخلة المنكسرة في صحراء زمن القيظ.
فلسفة العلاج بما هو أمر..!
ربما يلجأ المريض إلي تناول دواء شديد المرارة ليتغلب على مرض أشد وأفتك، وعليه فقد يكون بالفعل علاج داء الوطن مما أصابه علي مر العقود يحتاج إلى كل التضحيات التي تهون وتصغر أمام حرية وكرامة أجيال قادمة..
وفي الوقت نفسه قد يكون هذا التشبيه هنا غير متناسب ما بين “رابعة” وبعض القطرات من الدواء المُر، وعلي هذا يكون الأكثر مناسبة أن نقول أن “رابعة” هنا بما تمثله من وابل من الألم الكثيف، إنما هي علاج لما هو أقل منها وأهون..!
فعندما تتحدث الآن للكثير ممن عاصروا المذبحة ورأوا الجثامين والأشلاء بأعينهم، وتسألهم عن أية مشكلة أو ململة من ملمات الحياة الراهنة، فرغم كل المستجدات في حياتهم العامة والخاصة من خطوب ومحن، فستكون إجابتهم بأن :”الكثير مما بعد رابعة يهون”، والأمر ليس إجترار للعذابات والمآسي ليشد بعضها من أزر بعض، وإنما هي فلسفة الوجع الذي يصلب العود ويقوي البنيان، فيهون البلاء بالبلاء الأكبر، ومعه تطمئن القلوب وترضي، فلا تجزع لمُصاب ولا يتزلزل كيانها من حادث فيُغلق عن قلبها مفاتيح الأمل.
عندما نقرأ مما يُنسب مرويا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: “ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى عليّ فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم منه، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه”.. فربما كانت “رابعة” هي بالنسبة لبعضنا الآن ذلك “الأعظم منه” الذي تهون بالمقارنة به الأمور الجسام، لكن الحقيقة أن ما يعنينا هنا هو لفت الإنتباه إلي تلك الآلية الخاصة في التطبيب الذاتي، والانشغال بتخفيف وقع المصائب علي النفس بوسائل شتي وليس الإنغماس في النواح والإنزلاق والاستسلام إلى الكآبة والأحزان، فليشمر كل منا عن يد ملطفة تربت علي كتفها وكتف غيرها حتي تمر المحن بسلام، ولتكن “رابعة” هي كما يراها البعض الذكري التي تحضر ليهون إلى جوارها عظيم الخطب والألم.
أضف تعليقك