ساقنى القدر -على مدى عامين- للتردد على بعض العيادات المتخصصة فى الأمراض الخطيرة ومراكز الأشعة والتحاليل –فهالنى حجم المأساة التى يعيشها المرضى المصريون وأهلوهم، حتى ظننت أن الموت أهون عليهم من هذا العذاب وتلك «المرمطة» والإهانات..
ففى المحروسة الآن؛ إن لم تكن صاحب أطيان أو ذا دخل كبير وأُصبت أو أحد ذويك -لا قدر الله- بمرض مستعص -وقد انتشرت كالوباء- فإنك لن تحصل على العلاج، والبديل: الموت لامتناع العلاج، أو التردد على مشافى الدولة وهو موت من نوع ثان؛ أى تموت أيضًا لكن ببطء وبسبب الإهمال والقهر.
فى أكبر مؤسسات الدولة العلاجية كمعهد الأورام مثلا أو معاهد الكبد، يوصى المربون بزيارتها؛ لما فيها من عظة الموت، ولأنها باتت تذكر بالآخرة كما المقابر -ليس لهيئة المرضى الذين يترددون عليها فقط، لكن أيضًا للزحام الشبيه بيوم البعث، وللجزع البادى على وجوه الناس من الجهد وانعدام الخدمات، ومن الضيق النفسى جراء عدم الحصول على فرصة للعلاج، أو الإهمال وانتظار الدور حتى يموت الضحية قبل أن يتناول الدواء، ومن الفساد والمحسوبيات، ومن «البيزنس» العلنى حتى صار العلاج المجانى يُباع بأسعار خيالية لمستحقيه على أبواب هذه المستشفيات، ولا رقيب ولا حسيب.
إذًا العلاج فى المستشفيات الحكومية كالتعليم فى مدارسها، من الأولى إغلاقها وتوفير مخصصات مبانيها وأجور موطفيها. وليس أمام المرضى إذًا سوى العلاج فى العيادات الخاصة وفى مراكز الأشعة والتحاليل الأهلية، وتلك كارثة الكوارث؛ فإن هذه المراكز لم تنشأ لأعمال البر، ولا تتحلى بروح رسالة الطب الملائكية السامية، فربما كان مقاول أنفار لديه مال أنشأ هذا المركز أو المشفى ووظف عنده طاقمًا طبيًا، فالغرض ربحى صرف؛ هو يبحث عن المال بشتى الطرق. لهذا هناك ما يشبه (المافيا) فى هذا المجال، والمريض وأهله هم الضحية. خذ مثلاً على ذلك: إذا كنت مشاركًا فى أحد مشاريع العلاج النقابية، وأردت إجراء تحليل أو أشعة. احسب الفرق بين السعر العادى الذى يتعامل به المركز، وقارنه بالسعر الذى حصلت عليه بالكارنيه الذى تحمله، واستخرج حصة نقابتك من الفاتورة. ستجد أن أرباح هذه المراكز لا تقل بحال عن 200 أو 300%. أين الرقابة؟ أين الدولة؟ الواقع أن هناك إصرارًا على بقاء الوضع على ما هو عليه لحاجة فى نفس يعقوب، وكما قيل: (الفساد للركب).
الحقيقة أن ملف العلاج الخاص بحاجة إلى تحقيق موسع فلا يكفيه المقال والمقالان والعشرة، بل يحتاج وزارة، وقد اقترحت من قبل أن يكون لهذا القطاع شرطة ونيابة خاصتان به؛ لما ينتج عنه من أخطاء ضحاياها بالعشرات، ولما يصدر من تشخيصات خاطئة لقلة التدريب والخبرة وازدياد نسبة غير المتخصصين؛ تسببت فى عاهات أو فى توجيه المريض وجهة خاطئة بعد استنزافه وإرهاقه.
فى بلد أوقف العمل الخيرى الأهلى، ومنع رزق الناس بعضهم بعضًا، كان لا بد من إنتاج هذه العلل المتمثلة فى الجمعيات التابعة فعليًا للعسكر، ولعل الأيام قد أظهرت ما قصدنا الإشارة إليه؛ ففى مثل هذه المؤسسات فساد مقنع، ظهر ذلك فيما تحصل عليه من زكوات وتبرعات تستغرقه الإعلانات التى تذهب إلى الشركات المحظوظة، أو عمولات وبدلات لموظفى هذه الجمعيات المعينين من قبل الجهات الأمنية. فى النهاية لا يجد المريض العادى موطئًا فى هذه الجمعيات، ورأينا أهالى يحملون أطفالهم أمام هذه المستشفيات وقد تقطعت أكبادهم من البكاء عليهم؛ لرفض المسئولين علاجهم بها. فماذا يفعل الآباء وهم لا طاقة لهم على العلاج بالخارج، ولا مفر أمامهم من الجلوس فى بيوتهم تنفطر قلوبهم على أولادهم من أنينهم الذى لا ينقطع، ينتظرون موتهم فى أية لحظة.
وما سبق (كوم) كما يقولون، وأسعار الأدوية (كوم) آخر. فمن له بشراء الدواء الآن، خصوصًا أدوية السرطان والكبد والنفسية وجلها مستورد؟ بل من يستطيع المواظبة على العلاج الدورى للمسنين والزمنى؟ لقد تضاعفت أسعار الدواء ولا زالت، وهناك من يبشرنا بزيادات جديدة دورية على غرار الغاز والماء والكهرباء، بل قيل إن الشركات ونقابة الصيادلة سوف تتضامن لمنع وصول الأدوية للصيدليات حتى تستجيب الدولة لمطالبهم وترفع الأسعار بما يلبى رغباتهم. أين المريض فى هذه المعركة؟ من له؟ ومن يدافع عنه إذا كانت الدولة قد تآمرت عليه؟
أضف تعليقك