بقلم: قطب العربي
المعركة المحتدمة حاليا حول سلسلة التشريعات الإعلامية التي يناقش البرلمان المصري صيغتها النهائية، والتي تضع المزيد من القيود على حرية الصحافة والإعلام، وتفرغ النصوص الدستورية من مضمونها.. ليست معركة الصحفيين وحدهم، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، بل هي معركة المجتمع بكل قواه ومؤسساته المدنية الحية. فتكبيل الرأي والتعبير لا يخص الصحفيين والإعلاميين وحدهم، بل يطارد الجميع.
تحرص السلطة دوما على حصر معركتها حول حرية التعبير مع الصحفيين كما فعل نظام مبارك، ثم تحاول تحريض المجتمع ضدهم بدعوى أنهم يبحثون عن مكاسب فئوية، وأنهم ليس على رأسهم ريشة (كعلامة للتميز عن الجميع). والحقيقة أن النصوص المكبلة لحرية الصحافة والإعلام الواردة في تلك المشاريع محل المناقشة؛ تحرم المجتمع كله من حقوق أقرها وحماها الدستور، وأهمها حرية واستقلال الصحافة، بحيث تكون منبرا حرا لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والجهوية؛ يعبرون من خلالها عن رأيهم، ويتلقون من خلالها الأخبار والمعلومات الصحيحة التي تعينهم في اتخاذ القرارات الصائبة، وتبصرهم بما يجري حولهم في العالم، دون أن تفرض عليهم وجهة نظر واحدة للأحداث الداخلية أوالخارجية.
عاش المصريون لحظات ازدهار حرية الصحافة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولمسوا تنوعها، وتنافسها في خدمتهم، ولذلك فقد أقبلوا على اقتنائها وقراءتها، وهو ما انعكس زيادة في توزيع تلك الصحف، وزيادة في مشاهدة القنوات التلفزيونية. أما بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، فقد كانت حرية الصحافة ضحية كبرى، منذ اليوم الأول للانقلاب الذي تحركت قواته إلى مدينة الإنتاج الإعلامي لتغلق عدة قنوات وتعتقل بعض أطقمها، وتغلق بعض الصحف والمواقع الإخبارية أيضا، والتي لا تزال مغلقة حتى الآن، ولتعتقل عشرات الصحفيين، وتحجب مئات المواقع الالكترونية.
لم تكتف سلطة الثالث من تموز/ يوليو بتلك الإجراءات القمعية لحرية الصحافة والإعلام، بل عمدت إلى سن عدة تشريعات لتقنين جرائمها، وتحويلها إلى سياسة ثابتة تسندها نصوص قانونية. ولم تجد أي مشكلة مع نواب برلمانها الجاهزين دوما للتصديق على أي مشروع قانون يرضي السلطة التي أتت بهم إلى البرلمان، فأقر البرلمان من قبل قانونا لمكافحة الإرهاب، وقانونا حول جرائم التقنية، وكلاهما يتضمنان تضييقا على حرية وتدفق المعلومات بدواعي الحفاظ على الأمن القومي، كما تضمنا نصوصا تجرم نشر الروايات التي تخالف الرواية الرسمية للحوادث الإرهابية، وخاصة في سيناء التي أصبحت محرمة على وسائل الإعلام. كما أقر البرلمان مبدئيا، ويناقش حاليا الصيغة النهائية لثلاثة مشروعات، قوانين خاصة بتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، وهي (إضافة إلى سابقاتها)، تستهدف ضبط المنظومة الإعلامية؛ بما يحقق رؤية المشير عبد الفتاح السيسي للإعلام باعتباره مجرد أدوات للحشد والتعبئة خلف سياسات السلطة، في ما يصفه بـ"الاصطفاف الإعلامي"، على طريقة إعلام الستينيات التي حسد عليها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
يلمس الجميع الآن تحول وسائل الإعلام إلى مجرد أبواق للدعاية للنظام، لا تتمتع بأدنى قدر من الحرية في تناول الأحداث، وهو ما أفقدها الثقة لدى جمهور القراء والمشاهدين، فانصرفوا عنها، وهو ما تسبب في تهاوي توزيعها ومشاهدتها، وإضطرارها لتصفية الكثير من العمالة بها. ورغم أن الصحفيين والإعلاميين العاملين في الصحف والقنوات متضررون من هذا الوضع الذي يهدد أرزاقهم قبل حريتهم، إلا أن المجتمع كله متضرر أيضا من غياب أو تغييب الصحافة الحرة، خاصة في ظل السياسات الأمنية والاقتصادية الجديدة التي تلهب ظهره، ويحتاج إلى من يعبر فيها عن آلامه، ويرفع صوته، فلا يجد إلا تبريرا وراء تبرير لتلك السياسات عبر الصحف والقنوات.
في أزمة مشابهة حدثت عام 1995، حين شرع نظام مبارك قانونا يقيّد حرية الصحافة، ادعى حينها أن هدفه هو حماية المجتمع، وحماية الأعراض. والحقيقة أنه كان يستهدف حماية كبار المسؤولين من النقد بعد اشتداد عود الصحافة المعارضة، سواء كانت حزبية أو خاصة تصدر بتصاريح أجنبية. وقد سعى حينها لتشويه صورة الصحفيين؛ متهما إياهم بتجاوز أعراف المجتمع، فسن ذلك القانون لتأديبهم. وقد انتفض الصحفيون في مواجهته عبر جمعية عمومية طارئة استمرت 13 شهرا، وتكللت بالنجاح في إسقاط القانون بعد أن أقره مبارك ونشره في الجريدة الرسمية، وأصبح قانونا نافذا. كانت معركة إسقاط القانون سيمفونية نقابية سياسية شعبية، عبرت عن وعي كل فئات المجتمع بخطورة التضييق على الصحافة التي تمثل رئة المجتمع التي يتنفس بها، وعينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها، وقاد المعركة (وياللعجب) نقيب الصحفيين في ذلك الوقت رئيس مؤسسة الأهرام، إبراهيم نافع، وهو أحد المقربين من مبارك، ومعه مجلس نقابة الصحفيين، وعموم الصحفيين بمختلف توجهاتهم. ولم يقتصر الأمر على الصحفيين، فانضمت إلى المعركة الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والمنظمات الحقوقية والاتحادات العمالية والطلابية، ولم تخل نقابة الصحفيين من وفود التضامن يوما؛ حتى تم إسقاط القانون، وصياغة قانون جديد، واعتبر يوم 10 حزيران/ يونيو من كل عام عيدا للصحفيين.
في المعركة الحالية ضد التشريعات المكبلة لحرية الإعلام، تبدو الصورة مختلفة، فمئات الصحفيين وقعوا على عريضة ترفض تلك التشريعات التي تبيح الحبس في قضايا النشر، وتقنن إغلاق المواقع، وتضع قيودا كبيرة على إصدار الصحف وإنشاء القنوات الفضائية والإذاعية، وتفتح الباب للتخلص من العاملين والصحفيين، لكن نقيب الصحفيين ونصف أعضاء مجلس النقابة يقفون إلى جانب السلطة مدافعين عن هذه القيود، رافضين تلبية طلب رسمي بعقد جمعية عمومية طارئة، قانعين بمجرد لقاءات هزيلة مع صغار المسؤولين. كما أن بقية الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني لم تدخل على خط المعركة حتى الآن؛ بسبب العصا الغليظة للنظام، وخشيتها من غضب السلطة التي لا ترحم. ولا تدرك هذه الأحزاب والنقابات أن صمتها وابتعادها عن تلك المعركة سيغري السلطة بسن المزيد من التشريعات التي تقتل العمل الأهلي والنقابي والحزبي تماما، وساعتها سيقولون مجددا: "أكلنا يوم أكل الثور الأبيض".
أضف تعليقك