بقلم: سيف الدين عبد الفتاح
تحدثنا في مقالتين سابقتين عن ذلك التوازن المفقود في محاولة صناعة المجلس العسكري لقدرات تحكّمه؛ لأجل تغوله في الحكم من خلال مقولة استغلها (الجيش عمود الخيمة).. هذا الأمر رأينا شواهده في كثير من سياسات المجلس العسكري الذي حاول بكل شكل من الأشكال إضعاف هذا الجناح المدني الذي كان يمثل الثورة؛ من مثل اختيار رئيس لمجلس الوزراء روّج له كثيرون على أنه اختيار شباب الثورة.. وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمها، فإن المشاهد التي توالت بعد ذلك، وشاهدنا الدكتور عصام شرف وهو يحلف اليمين الدستوري باعتباره رئيسا للوزراء في ميدان التحرير، مما شكّل رمزية كبرى. وكان ذلك أحد المشاهد التي قبلها المجلس العسكري على مضض، بل إنه منذ ذلك المشهد استقر عمل المجلس على أمرين متلازمين؛ أولهما إضعاف هذه الحكومة على قدر ما يستطيع، وإثبات لدى الجميع أن المجلس العسكري هو من بيده القرار النهائي.. أما ثاني هذه الأمور فقد تمثل في محاولة لفك ارتباط شباب الثورة بهذه الحكومة، وإبراز هذه الحكومة من ناحية ثانية بأنها طوع يمين المجلس العسكري، مع محاولة إبعاد الشعب بجملته عن ملف الحكم بمجمله.. تعلقت تلك المشاهد المتراكمة بثورة يناير في أحداث متتابعة.
أشرت في بعض المقالات عن معرفة من قبلي بالمجلس العسكري وبعض أعضائه من خلال مقابلة بعضهم في مرات معدودة، وأن المجلس العسكري سيقوم بعمل يهدف إلى السيطرة على مفاصل الحكومة ومفاصل عالم الثورة ومفاصل القرار السياسي ومفاصل هذا الشعب؛ الذي يجب أن تضبط حركته ما بين عمليات الترويع المحدود التي لم يستنكف هؤلاء أن يقوم بها، ثم بعد ذلك يطلقون في خطاباتهم قولتهم الشهيرة "رصيدنا لديكم لم ينفد، ويسمح لنا بتقديم الاعتذار".. لم تكن تلك إلا لعبة متعمدة من جانب المجلس العسكري؛ غلّفها بعد ذلك بصناعة واصطناع الفرقة بين قوى سياسية مختلفة لديها من قابليات الاستقطاب الكثير، لا يستثنى في هذا الوضع تلك القوى الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، كما يشمل ذلك أفعال ومواقف من قبل هؤلاء الذين أسموا أنفسهم بالقوى المدنية، وانزلق الجميع إلى قضايا الاستقطاب الشهيرة التي تتعلق بالمرجعية والهوية، بينما أراد الذين هم في المجلس العسكري أن يبنوا لأنفسهم شرعيات مختلفة ومختلطة يحاولون إدارتها؛ لا من باب السياسة وممارستها، ولكن من باب إدارة الفرقة واستقطاباتها، وبدا أنهم يتلمسون مسالك لشرعيتهم، منها ما يرتبط بمؤسسة الجيش وصورتها المأثورة لدى عامة الناس، ومنها ما يرتبط بأن الجيش ساند الثورة ولولاه ما نجحت، أو شرعية استفتائية تدثر بها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولا بد هنا أن نعترف بأن هؤلاء استطاعوا أن يستغلوا كل هذه الأمور بقدر من المهارة؛ يمسكون فيها الزمام ويحركون في ساحاتها مفاصل المشهد بما يصب في مصلحتهم، وتشكيل مساحات تغولهم، وإهدار أي قوة متوقعة أو محتملة للجناح المدني الذي كان مهيضا ضعيفا بفعل عملية إضعاف ممنهجة وبفعل مساحات الفرقة المستقطِبة.. بدا كل ذلك للعيان، ولكن هؤلاء لم يفطنوا إلى مآلات قواعد تلك اللعبة ولا حال الثورة التي كانت موضعا للتبديد والالتفاف والحصار.
أول تلك المشاهد يتمثل بما دار حول الاستفتاء ومعركة الدستور أولا أو الانتخابات والبرلمان أولا، ولم يفطن هؤلاء إلى مقتضيات المرحلة الانتقالية في الاقتراب والتعامل مع مسألة الصناعة الدستورية التي ترتبط بالدستور الانتقالي؛ حتى تتمكن الجماعة الثورية من بناء توافقاتها من جهة ومسألة التنافسيات الانتخابية من جهة أخرى، وبدا الأمر في مشاهده المتوالية ينتقل من دوائر الحوار والاختيار إلى دائرة الاستقطاب والفرقة والشجار، حتى برز ذلك المفهوم الرمزي الذي أطلق أمر أشبه بالحروب الجاهلية القديمة متدثرا بمفاهيم إسلامية زائفة، فكان ذلك التعبير الخطير "بغزوة الصناديق"، وبات المجلس العسكري سعيدا غاية السعادة بحالة الاستقطاب العقيم، ليمرر ما أراد وما يريد، ويمكّن لكل مسارات حكمه وتحكمه. فعلى الرغم من أنه استخدم من نتيجة الاستفتاء غطاء لشرعيته، فإنه في حقيقة الأمر استند إلى "نعم" وعمل على أرض الواقع بـ"لا"، في محاولة منه لخطب ود كل من الجهتين: جهة من أرادوا أن يجعلوا للانتخابات بديلا للميدان، وكذلك مداعبة كل هؤلاء الذين تحدثوا عن الدستور وأهميته، فمرر ما أراد الاستفتاء بمقتضى نتائجه (نعم)، ولكنه عمل بـ"لا". المسألة تتعلق بالمبادئ الدستورية الأعلى (المبادئ فوق الدستورية)، في إطار اختلاق واصطناع وافتعال معارك استقطابية مستجدة ومستأنفة. كان ذلك عملا خطيرا أدى إلى اعتماد إعلان دستوري أصدره العسكر على مزاجهم، مضمنين إياه كثيرا من المواد التي استفتي عليها، ولكنهم تغاضوا عن بعضها. ومر ذلك للأسف الشديد من جانب التيارين الكبيرين، بل وكان الأمر بعد ذلك مدخلا لاقتتال جديد حول المبادئ فوق الدستورية فيما سمي بـ"وثيقة السلمي".
المشهد الثاني هو مشهد الاختيار بين البرلمان والميدان؛ انزلقت إليه القوى المدنية، وانشغلت ببناء الأغلبية السياسية عن عملية بناء التوافق التي تؤكد عليها المراحل الانتقالية. فلا البرلمان قام بدوره المشهود، ولا الميدان صار محلا للإجماع، وبدا هؤلاء يعملون وبشكل ممنهج من خلال أجهزة مخابراتهم (المخابرات العامة والمخابرات الحربية) لتشويه صورة الميدان عن عمد وانشغال البرلمان بما لا يلزم عن عمد، والقيام بكل ما من شأنه يفقد البرلمان قوته ويفقد الميدان إجماعه. واستُدرج هؤلاء لمعركة مفتعلة بين الميدان والبرلمان، والتي صارت مسرحا لعمليات قام بها العسكر، ضمن حملات تأديبية ممنهجة انقسم حولها الرفقاء فصاروا فرقاء.
ثم كان المشهد الثالث الذي يتعلق بتراكم هذه المحاولات التأديبية من العسكر وتكرارها في أشكال كثيرة من "أحداث البالون" و"ماسبيرو" و"محمد محمود" و"مجلس الوزراء"، لتحدث الشروخ التي لا تلتئم. وكان كل ذلك مسرحا لفعل خطير وكبير يقوم به من أسموا في ذلك الوقت "الطرف الثالث"، فضاعت المسؤولية والمسألة، وفُقد التوافق والإجماع، وتمكّن فيروس الاستقطاب وصناعة الفرقة. ولا بأس بتلوين ذلك بافتعال صناعة أخرى تتعلق بحالة صناعة الفوضى.. كان ذلك مناخا مواتيا وقابلا لكل ما يتعلق بعملية كبرى لتشويه الثورة والثوار، وبعمل أسفر عن إضعاف هذا الجناح المدني بكل تشكيلاته في طبعته الرسمية، ممثلا في حكومة عصام شرف، وفي طبعته من مكونات القوى السياسية التي خرجت إلى ساحات التراشق لا التوافق، والشجار لا الحوار.
وبدا الأمر كتكوين واصطناع الحالة التي تتعلق بالجناح المدني المهيض، وتغول العسكر وتمكنهم من كثير من المفاصل التي هيمنوا عليها. وكان ذلك بداية خطيرة للسير في تدبير يتعلق بفقدان الميدان، وإخصاء وحل البرلمان، وتغيير الحكومة، والبحث في دفاترهم القديمة عن "كاتم سر" يمهد لحالة انقلابية خطيرة، فأتى الجنزوري رئيسا للوزراء.. وبدا الأمر كتفكيك لهذا الجناح المدني المهيض؛ تمهيدا لمرحلة أخرى تتعلق بأفعال ومواقف وسياسات تسمى بالخداع الاستراتيجي. وتلك بوابة أخرى نتحدث عنها في المقال القادم، حتى نتعرف على مداخل النقد الذاتي التي يجب أن نمارسها واسعا؛ لا نستثني منها أحد.ا. الكل أخطأ في حق هذا الشعب، وحوصرت الثورة وانفض الميدان.
أضف تعليقك