إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصّبر إلا فاز بالظّفر
لله در الشاعر فيما نظم، وكأنه يتخطى بهذين البيتين حواجز الزمن، ويُحلّق حول الحدث الراهن في تركيا، وينفخ عطر شعره مُهنِّئًا زعيم الأترك على فوزه الذي حصده بعد رحلةِ عناء، وطولِ صبر، وأحداث مُزلزلة تُذهب لُبّ الحليم، وتُقعد الجَسُور وتُثبِّط أولي العزائم.
ومع فوز أردوغان الذي أثلج الصدور، أقول إنه ليس يوم انتصار له فحسب، بل هو يوم انتصار النموذج الديموقراطي الفريد الذي لا تكاد تلحظ له مثيلًا، بل تفوق على كثير من النماذج الديموقراطية في الغرب.
انتصرت الديموقراطية عندما مارس مرشحو الرئاسة المنافسون لأردوغان حملاتهم الانتخابية في أريحية تامة، ودون تضييق من الحزب الحاكم، وأعظم ما يعزز هذه الصورة، ذلك التعامل الراقي مع مرشح حزب الشعوب الديموقراطي الكردي "صلاح الدين ديمرطاش" والمسجون بتهم تتعلق بدعم الإرهاب، وتمكينه من ممارسة كل حقوقه في الترشح، وعقْد مؤتمر لحملته الانتخابية من داخل السجن.
في تركيا لم يعتقل أردوغان خصومه، ولم يُلفّق لهم التهم لإقصائهم عن خوض المنافسة على الرئاسة، ولم يُطلق الإعلام الحكومي لتشويه صورة المرشحين المنافسين.
انتصرت الديموقراطية عندما عُقدت انتخابات نزيهة لا تشوبها شبهة التزوير إلا في عقول المغرضين المُتربصين في الدول المعادية لتركيا، فقد ظهرت المُضحكات المُبكيات في الخطاب الإعلامي لدول راغبة في الإطاحة بأردوغان، والذي اعتمد على التشكيك حتى أن بعضهم اعتبر مرشح الشعب الديموقراطي "محرم إنجه" هو الرئيس الشرعي لتركيا رغم الإعلان عن فوز أردوغان.
ومما يُغرقنا في الضحك حتى البكاء، أن الإعلام الحقود ظل على نفس اللهجة المُشككة في نتائج الانتخابات، في الوقت الذي أقرّت المعارضة التركية بالنتيجة وقبِلَتْها.
ومما يستحق النظر والتأمل في واقع الانتخابات التركية، أن أردوغان الذي قاد بلاده خلال 16 عاما لتحتل مكانة اقتصادية متقدمة حيث أصبحت في مجموعة العشرين، قد فاز بنسبة أقل من 53% من الأصوات رغم كل إنجازاته، بينما نرى حكاما آخرين في دول أخرى يفوزون بنسبة 98% رغم تجويع شعوبهم والسير فيها بمبدأ الاستبداد، ولهذا نقول أن نتائج الانتخابات التركية قد أظهرت فوز الديموقراطية أكثر من فوز أردوغان.
انتصرت الديموقراطية عندما أظهرت المعارضة التركية نضجها واحترامها للنظام الديموقراطي وإرادة الشعب بعد إعلان فوز أردوغان، فسوف يُسجّل التاريخ لمرشح حزب الشعب الجمهوري "محرم إنجه"، كلمته بعد إعلان النتيجة، والتي قال فيها أن النتائج التي وصلت من مندوبي حزبه تتوافق مع النتائج التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات، مُعلنًا عن قبوله لفوز أردوغان، مُبديًا نصيحته للرئيس التركي بأن يكون رئيسا لكل الأتراك.
مع العلم بأن المناخ كان مُهيئًا لأن يثير "إنجه" الجدل حول نزاهة الانتخابات، وأعني تلك الزوبعة التي أثارها الإعلام الغربي والعربي حول ديكتاتورية أردوغان واستبداده وسيطرته على مسار الانتخابات، لكن المعارضة التركية رغم شراستها، إلا أنها تحترم الصناديق التي تُعبّر عن إرادة الشعب.
ويذكرنا الأمر بموقف رئيس حزب الشعب الجمهوري "كمال كيليتشدار أوغلو" قبل عامين، عندما أعلن رفضه الانقلاب العسكري على الشرعية رغم معارضته الشديدة لحكم أردوغان، صيانة للديموقراطية من عبث العسكر، وهو الشبح الذي سوف يلاحق أي حكومة منتخبة بعد ذلك.
نأمل أن تكون بداية عهد جديد لتركيا، تستأنف فيه المسيرة القوية التي بدأت منذ 16 عامًا، علمًا بأن التحديات القادمة أكثر صعوبة، لكن الأتراك بإذن الله وتوفيقه، قادرون على مواجهتها وتطويعها لما فيه خيرهم وخير بلدهم وأُمّتهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك