بقلم: إبراهيم يسري
ما زال السؤال الملح والمهم هذه الأيام هو: هل يمكن للعرب والمسلمين مواجهة الهجمة الشرسة التي يعدها الغرب ضد الإسلام والعروبة، والتوصل إلى تسوية نتفادى فيها إشعال الطائفية والغلو في الفرقة؟
لنأخذ هذه المرة دروسا ممن سبقونا على طريق الحرية والديمقراطية والحرص على المصالح الوطنية. وأطرح هنا نهجا تبناه الاستعمار البريطاني لإخضاع الدول وتحقيق مصالحه في إخضاعها أو احتلالها، وذلك بتجنب الغزو العسكري المباشر على المستعمرات؛ حفاظا على حياة جنودها وحرصا على موازنتها المالية. فعلى سبيل المثال، غزت شبه القارة الهندية عن طريق إنشاء شركة الهند الشرقية التي اتخذت التجارة كغطاء للاحتلال، ومضت في تشكيل جيش من الهنود تابع لها، وقد تيسر لها السيطرة على الهند كلها باستخدام الهنود وسياسة فرق تسد التي برعت في استخدامها وحققت لها أهدافها، وهو ذات النهج الذي يمارس في الوقت الحاضر ضد الإسلام والدول العربية.
رقي الفكر السياسي العربي الإسلامي
ودعونا نلاحظ خصيصة رقي الفكر السياسي عند العرب في صدر الإسلام. فقد أرسى الإسلام مبادئ الديمقراطية وخرج عن القبلية حينما امتنع الرسول صلي الله عليه وسلم عن تعيين خليفة له، توخيا لإرساء نظام الاختيار والانتخاب كوسيلة لتنصيب الحكام. وعليه، فقد اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة، وتمت مبايعة أبي بكر خليفة للمسلمين، وهو منصب تغلب عليه السياسة أكثر من الدين، وقال أبو بكر ما معناه: وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أصلحت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، وقام رجل ليقول: والله إن أخطأت لقومناك بسيوفنا.
ولكن هذه النواة المبكرة للفكر السياسي الراقي المعاصر تراجعت بعض الشيء، عندما ترجمت الشورى وقتها (وإلى الآن في بعض الدول الإسلامية ) إلى شخصيات قليلة ذات نفوذ قبلي سميت أهل الحل والعقد، ولم تستوعب الطريق الذي يؤدي إلى التطبيق الديمقراطي بالشكل الحالي، وهو الذي أرسته تجارب وثورات شعوب كثيرة على مر قرون.
ولكن للأسف لم يستوعب الفكر القبلي الوراثي هذا النهج في اختيار الحكام الذين لقبوا بالخلفاء، فراح البعض ينادي بأن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أولى بالخلافة؛ لأنه قريب للرسول، وذهب البعض إلى أن الرسول قد أوصى بالخلافة لعلي مستندين إلى حديث الغدير وحديث الخلفاء الإثني عشر. وهكذا وضعت الخطوط الأولى لخلاف تاريخي بين أكبر طائفتين إسلاميتين: أهل السنة والجماعة والطائفة الشيعية.
واستفحل الخلاف بالخوض في تفصيلات جانبية: في من لديه العصمة، الأنبياء أم الأئمة؟ هل كل الصحابة عدول أم أن بينهم المنافق والفاسق؟ ومضت الخلافات تستعر بين المسلمين لدرجة اغتيال ثلاثة منهم (عمر وعثمان وعلي)، والنزاع بين علي ومعاوية.. إلى آخر الخلافات المتصاعدة والمتجددة التي مست السيدة عائشة.. ولمن يكون التوسل؟ ومن هو المهدي المنتظر؟ ومدى مشروعية زواج المتعة، ووضع اليدين على الجانبين أم على صدر المصلي، والسجود على الرقعة الحسينية.. إلى آخر هذه التفاصيل الجانبية التي لا تمس جوهر الإسلام كدين، والتي توارثتها الأجيال. فقد نما هذا الخلاف وترعرع عبر القرون إلى يومنا هذا، وراح ضحيته مئات الألوف من المسلمين سنة وشيعة، وهو أمر لا يستسيغه عقل ولا يقبله منطق.
وقد قام العديد من العلماء بمحاولات لم يكتب لها النجاح في قمع الطائفية، بدأها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وتبلورت بتأسيس جمعية التقريب بين المذاهب. وشجع العديد من علماء السنة هذا الاتجاه، مثل محمود شلتوت، وأصدر الأزهر فتواه الشهيرة بصحة التعبد بالمذهب الإباضي والشيعي الإثنا عشري والزيدي، وخصص الأزهر رواقا للشيعة، ونشأت فيه جماعة التقريب بين المذاهب.
تفاقم الخلافات الطائفية
وواصلت الطائفية مسارها إلى العصر الحاضر، فأججت جماعة الشيعة في إيران والعراق واليمن ولبنان الخلاف بين السنة والشيعة بعد فشل الثورة الإيرانية في الخروج بالمذهب الشيعي من حدود إيران، كما أخذت المواجهة بين السنة والشيعة تتراوح بين صراع فكري يتمثل في محاولة استقطاب الفريقين لأكبر كم من الأتباع من الفريق الآخر، إلى الصراع السياسي والمواجهات المسلحة. وسبب هذا الصراع رغبة كل جماعة فرض سيطرة مذهبها في أوسع نطاق ممكن.
وهكذا نتبين أنه لا معنى للعداء مع إيران حتى إن لم يكن لوحدة الدين. فعلى الأقل بمنطق عدو عدوي صديقي، حيث أن إيران تجاهر بعدم قبول احتلال فلسطين وتدعو إلى إنهائه. ومن هنا قد نصل إلى أنه لا يجوز أن ننضم للغرب المعادي للعروبة والإسلام في معاداة إيران. كما ينبغي التفرقة بين الخلاف الطائفي وبين أطماع الدولة، فالأول لا مكان له في هذا القرن، والثاني يحل بالتفاوض والتنازلات المتبادلة.
فإذا بادرت الدول العربية بفتح إمكانية التعاون مع إيران، فمن الممكن التوصل إلى وقف محاولات إيران الطائفية للمد الشيعي بناء على مفاوضات سياسية كدول، وليس طوائف تسفر عن توازن القوى الحقيقي، وتكشف عن المكاسب التي يحققها التلاحم الثابت أو المؤقت.
وهنا نجد أن السعودية، وهي أكبر الدول العربية في المنطقة، ما زالت فيها نزعات قبلية قديمة، ولا يبدو أنها قابلة للاستمرار في عالم جديد، وتعاني من خطورة الانقسام، كما أن تسميتها باسم الملك ابن سعود الذي قام بغزوها؛ تعتبر ظاهرة فريدة لا مكان لها في عالمنا. ولذلك يجب عدم التعويل على مواجهاتها الدائبة وتخوفها من الغزو الإيراني الطائفي، بل يتوجب التخفيف من هذا التوجه، والدخول في مفاوضات لوضع قواعد يلزم بها الطرفين، مع توقي انضمام دول مسلمة أخرى إلى الفريق السعودي الإماراتي البحريني ولهذا الخط السياسي السعودي.
ويؤخذ في الاعتبار في هذا المجال أن السعودية هي أول الدول تحالفا، بل وتآمرا، مع أمريكا وفق الأسس التي أرساها الملك عبد العزيز مع روزفلت، وهي تخشى دائما تعاظم الدور المصري، ولذلك تبذل الجهود والأموال (مع الإمارات) لمحاصرة ووقف صعود القوة المصرية مرة أخرى.
احتمالات التضامن الإسلامي العربي
يرد في الذهن أندونيسيا وماليزيا وباكستان (ذات السلاح النووي) وأفغانستان، وهي دول لم تتبلور لديها نوايا التعاون الوثيق مع دول المشرق العربي التي تضم دولا إسلامية مثل تركيا وإيران، بعد التمزق السياسي والاجتماعي الذي قضى على ريادة مصر وقيادتها.
يقتضي الأمر إذن استشراف إمكانيات التضامن والقدرة على إرساء تضامن وتعاون في دائرته الواسعة مع دول الشرق الأقصى المسلمة، وتحتاج إلى جهد حثيث لتصعيد اهتمامها في داخل منظمة المؤتمر الإسلامي والاتصالات الثنائية، ويسبق ذلك السعي لإيجاد نوع من التضامن والوقوف الصارم، وإن كان وقتيا في وجه الخطر بين الدول التي تقع في دائرة الخطر في المشرق العربي، وعدم تجاهل دور وقوة تركيا وإيران، وذلك للوقوف في وجه الأخطار الكبري الوشيكة التي تهددها في هذه المرحلة، والتي تعتبر صفقة القرن الأمريكية الإسرائيلية خطوة أولى في طريق هذا الخطر الداهم.
كل ذلك لا بد أن يجري بالتعامل مع الدور النشط وأطماع القوى الخارجية، مثل أمريكا وروسيا وفرنسا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي.
أضف تعليقك