بقلم: عمرو عادل
"لم يعد في قوس الصبر منزع".. عبارة عربية تشير إلى انتهاء القدرة على التحمل، ويبدو أن هذه العبارة ستكون المحركة والمفسرة للكثير من الأحداث القادمة، ليس فقط بالنسبة للشعب المصري المسحوق تحت ادعاءات إنقاذ مصر بسحق شعبها، ولكن أيضا بالنسبة للنظام الانقلابي، وربما بالنسبة للقطاعات المخالفة للنظام من معارضين وثوار.
منذ انقلاب يوليو قررت السلطة ضبط مسار الثروة في اتجاه واحد لأعلى ودمرت القيمة الفعلية لثروات المجتمع بقرارات مجنونة، أدى ذلك إلى تقليل حجم الثروة الحقيقية المتداولة داخل المجتمع
فالشعب المصري المشهور عنه قدرته على التحمل؛ كان يدبر حاله بجزء من الثروة حافظت عليها الأنظمة المتعاقبة في مساحة الجماهير، ليس مهما كيف يحصل عليها كل فرد، ولكن في النهاية كان الأمر يستمر بشكل ما، ولكن منذ انقلاب تموز/ يوليو قررت السلطة ضبط مسار الثروة في اتجاه واحد لأعلى ودمرت القيمة الفعلية لثروات المجتمع بقرارات مجنونة، أدى ذلك إلى تقليل حجم الثروة الحقيقية المتداولة داخل المجتمع، وأصبح استمرار قدرة الشعب على "تمشية حالة" صعبة للغاية، فلم يعد من الممكن الاستمرار، فالبديل الجوع حتما لقطاعات واسعة.
لا يمكن القول إن الجوع حالة نادرة في مصر، فهو وضع قديم، ولكن لم يكن بهذه القسوة من حيث عدم الاكتراث بها، أما الآن فكأنه أصبح شيئا عاديا بل (ومن إبداعات النيوليبرالية) أنه وضع طبيعي تفرضه ظروف السوق، كأن دارون وآدم سميث ونيتشه اجتمعوا معا لينتجوا فرانكشتاين جديد. لا يمكننا الادعاء أيضا بأن توحد دارون ونيتشه وسميث حدث حالا، فهو من سمات الحداثة بشكل عام، أما الجديد فهو وجودهم معا في ظل نظام استبدادي مجرم لم يعد يجد له رادع في ظلمه وفساده.
قد لا يهمه أحد من فقراء مصر وجائعيها كل هذه الأسماء، وربما يبدأ السباب الآن للمتحدثين عن تلك المصطلحات، وسط هذا الألم العميق والبؤس وقلة الحيلة التي تحاصرنا جميعا.. ربما تكون الجمل "الفرانكشتانية" السابقة تعبيرا عن العجز أكثر من أي شيء آخر.
ماذا يمكن أن يحدث ما بعد الجوع، في ظل الوضع المصري الحالي. هناك عدة احتمالات لكل طرف من الأطراف الثلاثة السابق ذكرها، والحقيقة لن أضع اختيارا، وسأترك للقارئ أن يختار، سواء كان اختياره يعبر عن رغبته أو توقعه.
ماذا يمكن أن يحدث ما بعد الجوع، في ظل الوضع المصري الحالي. هناك عدة احتمالات لكل طرف من الأطراف الثلاثة السابق ذكرها، والحقيقة لن أضع اختيارا، وسأترك للقارئ أن يختار
الكتلة الأولى الشعب المسحوق
1- الاستمرار في الجحيم، وتحويل الغضب ضد النظام إلى تدمير المجتمع بعضه البعض، سواء كان بصراع طبقي حاد ومدمر، وخاصة مع زيادة في انعزال الطبقة الحاكمة وتابعيها داخل أسوار "الكومباوند"، مما يمهد لحرب أهلية شاملة.
2- التحول إلى نموذج حروب العصابات المسلحة ضد السلطة الديكتاتورية وانتشارها على نطاق واسع، حيث لم تعد سوريا والعراق نموذجين يخشى منهما المصريون، بل وسيصبحان حلما جميلا يراود خيال البعض.
3- لن يحدث شيء، وسيبقى المصريون في معاناتهم الأزلية لا يقتربون من السلطة، ويموتون في صمت.
4- ثورة شعبية اجتماعية عارمة مفاجئة تطيح بالجميع.
الكتلة الثانية: السلطة الانقلابية..أيضا لم يعد بالقوس منزع
إن تلك السلطة تعاني بالتأكيد، وهي حتى الآن لا تعاني من مقاومة خشنة، إلا أنها تسعى جاهدة لكبح جماح الاحتمالات "السيئة" من وجهة نظرها التي يمكن أن تقوم بها الجماهير، وهي مضطرة للمضي قدما في ما بدأته من "إصلاح" اقتصادي. فمصر دولة حديثة منذ محمد علي، وبالتأكيد يختلف ويتفق البعض مع شكل الدولة القومية الحديثة، إلا أن الكثير سيؤكد أنها حولت مصر في ظل الاستبداد الحتمي إلى إقطاعية كبيرة، والشعب إلى مجوعة بشرية أقرب للأقنان، ولم يعد في الإمكان الفكاك من هذا المصير. وانتهى رأس السلطة إلى القناعة بأن الشعب (أدوات إنتاج الثروة) ملك له، ولا توجد له حقوق إلا ما يعطيها له، ولم يعد في قوس الصبر منزع أن يصبروا على حماقاته ومتطلباته، فهو يستهلك كثيرا وينجب كثيرا ولا يحقق عائدا مناسبا.
السلطة تعاني بالتأكيد، وهي حتى الآن لا تعاني من مقاومة خشنة، إلا أنها تسعى جاهدة لكبح جماح الاحتمالات "السيئة" التي يمكن أن تقوم بها الجماهير، وهي مضطرة للمضي قدما في ما بدأته من "إصلاح" اقتصادي
ولذلك أمام السلطة أيضا عدة أمور:
1- الاستمرار في سحق الشعب بدون رحمة وبنفس المعدلات القاسية حتى لو مات الناس جوعا، فهم لا يمثلوا شيئا، وأعدادهم كبرت كثيرا والسوق لا يحتاج إليهم.
2- سيظهر مخلص من داخل النظام ينقذنا من "المجرم الوحيد" السيسي ويعود الجيش والشعب "إيد واحدة"، كما كان أكثر الشعارات حماقة يتردد في 28 كانون الثاني/ يناير.
3- التمادي في إذلال وإرعاب الشعب، وزيادة القبضة الأمنية لإرعاب أي فرد يحاول المقاومة، واستمرار بناء جمهورية الرعب.
4- تفتت النظام، وظهور صراعات قد تصل لصراعات مسلحة بين أطراف من داخل النظام.
الكتلة الثالثة: المعادون للنظام
على ما تتسم به هذه الكتلة من تباين واسع في رؤاها وقدرتها على الفعل، أرى أن ردود فعلها جميعها ستتراوح بين هذه البدائل
1- تستمر في عرض مساوئ النظام، والتأكيد على عمالة النظام وترديد السؤال: لماذا لا يتحرك الشعب.
2- الانسحاب العلني من المشهد وإعلان الهزيمة.
3- استمرار استجداء النظام الحالي في الإطاحة برأس النظام فقط، والوعد بحل كل الأزمات والمشاكل.
4- تطوير خطة التعامل مع النظام من المناوشات وقذف الحجارة من بعيد؛ إلى التجهيز الحقيقي الفكري والميداني للثورة الشاملة.
هناك بديل أراه محسوما في كل من الملفات الثلاثة، إلا أن الهدف الرئيسي مما سبق هو التأكيد على عدم تحميل الشعب وحده عبء المواجهة القاسية
الحقيقة أن هناك بديل أراه محسوما في كل من الملفات الثلاثة، إلا أن الهدف الرئيسي مما سبق هو التأكيد على عدم تحميل الشعب وحده عبء المواجهة القاسية، وأن الأطراف الثلاثة كل منها عليه فعل شيء ما، وأن تفاعل الإجراءات هو ما ينتج الفعل الثوري. فتحميل الجماهير فقط تبعية كل شيء وثمن كل شيء؛ هو أمر خطير ومزعج، ويبدو كأنه هروب من المواجهة خلف قذف الجماهير بالحجارة.
إن الاستبداد هو صانع الجوع الأكبر، وما يحدث في مصر تجاوز المعقول، وأزعم أنه لا يوجد شعب في العالم تعرض لهذا الإذلال والقهر والتجويع كما يحدث الآن، وربما حانت لحظة المواجهة التي لا يعرف أحد شكلها ولا تداعياتها، ولن يستطيع أحد السيطرة عليها. فعندما تحطم الأولى كل شيء ستتعامل مع الكتلتين الآخرين كعدو لا رحمة معه؛ إلا لو تفاعلت الكتلة الثالثة معها بشكل صحيح، أما استمرارها بهذا الشكل دون تغيير في نمط تعاملها مع الجماهير؛ فربما تسحقها الجماهير قبل كتلة العسكر.
أضف تعليقك