بقلم: سيف الدين عبد الفتاح
دخل الدور السياسي على دور إعلامي لم أخطط له، إنها الثورة تتوالى إرهاصاتها، دعوة من الشباب لوقفات ومسيرات وتظاهرات في 25 من يناير تنادي بعزل وزير الداخلية وشعارات على استحياء تطالب بإسقاط النظام.. الكل تصور أن الحدث ربما ستتوقف مشاهده بعد مجموعة من الوقفات، وربما تتطور إلى جملة من المسيرات، ولكن أحدا لم يكن يتصور أن تلك ستكون شرارة ثورة.
وهنا ربما علينا أن نتحدث عن كيف يمكن أن تنشب الثورات، ذلك أن السيسي على - سبيل المثال - قد ذكر معقبا على ثورة 25 يناير وأحداثها بأنه لن يسمح بتكرار هذه الأحداث مرة أخرى. ومن فوري كتبت ردا على مقولته وأكدت أن "الثورة ليست بسماحك"، فحدث الثورة وإن بدا تلقائيا أو مفاجئا، إلا أن عوامل تعتمل في داخله وتتراكم، بحيث تشكل قابليات لحدث ثوري كبير، ومن ثم فإن أحدا لا يملك تحديد توقيت لثورة، بل حينما يلتئم الأمر في شكل معين فإن الجميع يلتحم بالحدث، ليشكل بعد ذلك عملا ثوريا ينخرط فيه شرارة وطليعة وحشود. ولا يقوى النظام على مواجهة كل ذلك، فبين "فهمتكم" وهرب زين العابدين بن علي، وبين تنحي مبارك المخلوع، تبدو الأمور تسير في خط التصاعد غير المحسوب، ومن ثم فإن الثورة لا توقيت لها.
حينما أقول إن دورا قمت به ولم أخطط له، إنما يعني ضمن ما يعني أن الحدث الثوري المفاجئ بدا لدى الجميع، ومنهم شخصي المتواضع، عملا ربما يتصاعد. رأينا ذلك في اليوم 25، ولكننا لم نكن ندرك كيف يتطور الحدث. ومن هنا ظل هؤلاء المنخرطون في الحدث الثوري بين كر وفر، بين إصرار وإقدام، وبعض الأحوال التي نالت من البعض، فأحبطت بعضهم حينا واستنفرت البعض أحيانا. ولكن فيما يتعلق بي، فإنني لم أكن ملتحما مع الحدث من الناحية الجغرافية.. رأيت الحدث من على بعد وليس في ميدان التحرير. كان ذلك يشكل بالنسبة لي في ذلك الوقت مشقة وشوقا.. مشقة على النفس بحكم المكان الذي كنت بعيدا فيه عن ميدان الأحداث، وشوق المنتظر لحدث كبير الحالم به.. الحدث يتخلق، يشكل أشواقا لثورة كنا ننتظرها ونلتمسها، ولا أخطئ القول إننا كنا نحلم بها.. في الأفق تبدو الثورة، يتراكم عالم أحداثها ونراه يتصاعد من حولنا. بدأت الشرارة وانتفض الناس.. كل يبحث عن دور، أما عن دوري أنا فلم أجد بنفسي إلا أن أخرج في اليوم التالي، وكنت في الدوحة أدرس في إحدى الكليات، خرجت بالقرب من السفارة المصرية مع من خرجوا. كنت أدرس الحكم الراشد، وكأننا كنا على موعد مع التغيير، ودرست في هذا العام أيضا مساقا حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وكأن هذا المساق قد نحتت كلماته من شعار الثورة الذي كان يتولد "عيش.. وكرامة إنسانية.. وحرية أساسية.. وعدالة اجتماعية"، شعار عبقري يتولد كنت أتلمسه في قاعة الدرس مع طلبة لي؛ نتناول تلك الموضوعات ونتحاور حولها ونبحث.
وبينما كنت أعد العدة لدرسي، رن هاتفي، لأجد على الطرف الآخر شخصا يعرفني بنفسه، إنه أحد تلامذتي وهو موجود بالدوحة ويعمل في قناتها المشهورة، يحدثني: هل أنت هنا؟ قلت له أنني هنا منذ شهور، وأنني كنت أنوي النزول إلى مصر في شهر شباط/ فبراير في إجازة منتصف العام قبل الفصل الثاني. وتجاذب معي أطراف الحديث حول حقيقة ما يحدث في يوم 26 كانون الثاني/ يناير، وهنا عرض عليّ، ولم أكن مخططا لذلك: دعنا نستضيفك غدا يوم الخميس (27 كانون الثاني/ يناير)، وقلت له إنني أرى أن الأحداث تتطور بسرعة، وأننا أمام حدث استثنائي قد يبشر ببواكير ثورة.. في هذا اليوم لا أدري لماذا وردت على لساني هذه الكلمة في مساء 26 يناير (يوم الأربعاء)؟! ربما كان هذا هو بداية دور لم أخطط له، دور تقاطع فيه السياسي مع الإعلامي وقفز إلى المشهد، دور لم أكن أفكر فيه ولم أتحسب له.. سأكون ضيفا على الحصاد أحلل فيه الأحداث، يسبقني في هذا أستاذ قدير هو الدكتور عزمي بشارة وأنا سألحق به في التحليل. كانت تلك البداية، ولكنها كانت فاتحة لدور خطير قمت به ولم أخطط له.
في هذا الدور الذي كنت أتخيل أنني ضيف لمدة يوم وحيد، فإذا بالمسألة تتوالى والميدان يشتعل وأحداث الثورة تتراكم، إنها جمعة الغضب في 28 من كانون الثاني/ يناير.. أين نحن من هذا الحدث وقد أطل علينا من دخول شعب مصر وشباب مصر من أبواب متفرقة من تلك المداخل المتعددة لميدان التحرير؟ فهذا حشد هادر، وشلال بشري يأتي من كوبري قصر النيل، وقد تجمع من الجيزة والمهندسين، وهذه جموع حاشدة تأتي من رمسيس وشبرا وتدخل إلى ميدان عبد المنعم رياض من ناحية التمثال، وهؤلاء يأتون من ناحية ماسبيرو، وآخرون من طلعت حرب، وبعضهم من وسط البلد يأتون من منافذ محمد محمود وأخواته.. الحشود تتجمع والداخلية تتراجع، نعم إنها الثورة.. الظهير الشعبي الهادر وشلال الشعوب تدفق إلى ميدان التحرير، والميادين الأخرى تتداعى له بالسهر والحمى والمعاضدة والتأييد، والفعل الثوري العظيم يتراكم والجماهير تحتشد وتتزايد، الثورة قائمة، الثورة ثائرة، من جوف هذا الشعب الصابر يولد شعب ثائر.
خرجت على شاشة التلفاز بعد أن اتصلت بأولادي في ميدان التحرير، أقصد بعض طلبتي، ما حدثت واحدا منهم إلا وقال إنني أرابط في الميدان، وهنا بدا لي وبعد اتفاق وتوافق؛ أنني سأكون هذا الضيف اليومي على شاشة هذا التلفاز أقدم تحليلا في نهاية اليوم وحصاده، قلنا في هذا اليوم إننا أمام ثورة، وأن الدور السياسي صار عليّ فرض عين، بعد أن تواصلت مع البعض وأكدوا لي متابعتهم لبعض ما أقول. وهنا لم أكن ذلك الضيف الذي يقوم بالتحليل، ولكنني كنت ذلك الذي يتشوف ويتشوق إلى أن يحضر الحدث، وكأنني كنت أعيش في الميدان من بعد وعلى الشاشة، أخاطب الشباب وأشد من أزرهم وأؤكد لهم أنها الثورة قد أتت، ولا بد أن لا تفلت من أيدينا، عُضّوا عليها بالنواجذ، واستنفروا الطاقات وقوموا قومة واحدة، وصار الميدان يعلم الجميع في ما اجتمع فيه الناس.. لقد أسس هذا المكان ميثاقا لاجتماع الناس، اتسع الميدان لكل شخص وفرد وإنسان، ولكل مواطن أيا كان، لكل اتجاه مهما تنوع، لكل مذهب مهما تعدد.. الميدان يتسع الجميع. وأنا في الميدان من على بعد، أخاطب كل هؤلاء أجمع بين التحليل وبين نداءات حركية أطلقها هنا وهناك، وأعبر فيها عن كل شوق.. أنا معكم ولو كنت بعيدا، أنا في الميدان والميدان فيّ.. دور لم أكن أخطط له ولكنه ملكني وتملكته، وصرت أتذكر كل معاني الحرية التي كنت أنادي بها في قاعات الدرس وخارجها، لأحفز هؤلاء الأحرار في ميدان التحرير وكل الميادين.
أضف تعليقك