بقلم: أمين أمكاح
يثبت لنا الواقع الحالي للشعوب العربية بالملموس أن السياسات التعليمية المتبعة في بلدانها غير ملائمة مع حاجياتها ومتطلباتها الحقيقية، وهذا ما يعكس ظهور مواطن خلل خطيرة، نظرا لما تعانيه أنظمتها التعليمية من مشاكل جمة، ومن قصور في مختلف جوانبها التي تفرز تحديات كثيرة، كما أن الشعوب العربية أصبحت الآن أكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى نظام تعليمي متطور ومحين أي عالي الجودة، كيف لا والعالم يعرف تقدما كبيرا وتغمره ثورة تقنية كبيرة، كما أنه يزخر بتطورات متسارعة وتغيرات مستمرة.
وبعيدا عن لغة العاطفة سيتم الحديث هنا عن أهم ملامح النظام التعليمي الذي تتمناه الشعوب العربية أي ما يتعلق بالمدخلات والمخرجات سواء البشرية منها أو المادية أو المعنوية، أما فيما يتعلق بالعمليات والإجراءات التي تعتبر أيضا مكونا أساسيا للنظام التعليمي والتي ترتبط بمراحل التخطيط والتنفيذ والتقويم والمتابعة، فسيأتي الحديث عنها في فرصة أخرى. والأمر الذي لا بد من التطرق إليه وبيانه هو ما يتعلق بمن يمتلكون زمام الأمور في الدول العربية فغالبيتهم ضد التعليم الفعال مهما ادعوا أنهم معه، لأن به يحصل الوعي الفردي والجمعي وبه يدرك الفرد والمجتمع حقوقه إدراكا تاما، وهذا ما يجعله يطالب بها جملة وتفصيلا، مما يعني إحداث نوع من اليقظة والتنوير في أوساط هذه المجتمعات.
إن الإصلاح الحقيقي للتعليم في البلدان العربية أكبر كذبة يمكن أن تصدقها، فلا أثر سوى للإصلاحات الشكلية التي تكون قيمتها التطويرية باهتة جدا، ولعل خير دليل على ذلك عدم تحسن الشأن التعليمي في عمقه بهذه الدول، ولا يمكن بناء نظام تعليمي عالي الجودة ما دام أن معظم من يملكون سدة الحكم في البلاد العربية لا يريدون ذلك، والمقصود هنا المالكين الحقيقيين أصحاب المصالح الاقتصادية والتجارية الكبيرة التي تتحكم في الأمور وتتخذ كل القرارات المهمة، أما فيما يتعلق بالسياسيين والنخب في الوطن العربي فرغم أن لبعضهم نوايا حسنة في الإصلاح الحقيقي إلا أنها لا تكفي لتحقيق ذلك إذ لا حول ولا قوة لهم، لأن سلطتهم زائفة وغير فعالة مهما قالوا ومهما صاغوا من مشاريع إصلاحية، فهم يوضعون في تلك المناصب ليعطوا فكرة أن للشعوب العربية كل الحقوق تامة بلا نقصان، لكن مجرد موقف واقعي واحد قد يبين لك أن الحقيقة على النقيض من ذلك كله.
وتجدر الإشارة إلى أن أضخم الميزانيات لا تخصص للتعليم في البلدان العربية، ولا تختار له أجود الموارد البشرية، ولا تطبق فيه أصوب النظريات والأساليب كما هو الحال في الدول المتقدمة التي تعتبر التعليم من القطاعات الحيوية إن لم نقل أهمها، رغم كونه من الحقوق البسيطة المشروعة التي يجب توفيرها لشعوبها، لذا فهي تعطيه لهم في جودة عالية، عكس دولنا العربية التي تعتبر التعليم مجرد قطاع خدماتي صرف مثله مثل الصحة؛ أي أنه لا يوفر الموارد المالية للدولة بقدر ما يستهلكها، لذا فهي تمنحه لشعوبها معطوبا في قالب مشوه فاقد لمعايير الجودة المطلوبة.
والأهم من ذلك كله أن الحكومات في البلدان العربية تقف موقفا سلبيا نحو المدرس فتطلب منه الوزارة الوصية عن القطاع لائحة عريضة من الواجبات في مقابل ذلك يتم الحصول على حقوق أحسن ما يمكن أن يقال عنها أنها شحيحة وهزيلة، وبطبيعة الحال فحكومات الدول العربية مساهمة بشكل كبير في تدني مكانة المدرس في المجتمع العربي أمام قيمته اللائقة برسالته النبيلة. ورغم وجود مشاريع إصلاحية للتعليم بالعالم العربي إلا أن أغلب التي تم تبنيها حكوميا خلقت لهدر المال العام تحت مسميات طنانة دون رقيب أو حسيب، وجل رؤى إصلاح التعليم الاستشرافية كسابقاتها تعتمد لغة الخشب الفاضحة وتتضمن بنودا غير قابلة للتطبيق والتنزيل على أرض الواقع في ظل الظروف الراهنة البعيدة كل البعد عن مقتضيات هذه الرؤى الحالمة.
ولن أمل أبدا من تكرار القول بأن الكنز الحقيقي موجود عندنا ولا داعي للحفر والبحث عنه ألا وهو الإنسان، بمعنى أن الموارد البشرية عندنا فقط تحتاج لأن نعطيها حقها ونقدرها وبعد ذلك ستسهل عملية الاستفادة مما يمكن أن تعطيه هذه العقول، فلا نجاح لأي نظام تعليمي لا ينبني على الإبداع والابتكار واحترام طاقات وأفكار الآخرين كيفما كانت، نظام غير قائم على السطو وسرقة براءة ابتكارات الآخرين واختراعاتهم واكتشافاتهم ومجهوداتهم، ولن نحصل على قيمة ذلك الكنز الذي نتحدث عنه إلا حينما يشعر كل من ينتمي لهذا الحقل سواء كان صغيرا أو كبيرا بأنه يمتلك طاقات إبداعية وأفكار مبتكرة ذات قيمة مصونة من أي سلب، يحتاج فقط لإخراجها وإظهارها ليستفاد منها بطريقة شرعية. وهذا كله ما يظهر في معظم الأنظمة التعليمية السائد في البلدان العربية التي لا تعزز الإبداع عمليا، ولا تشجع التفكير النقدي في مقرراتها، ولا تنمي القدرة على تدبير الاختلاف في برامجها ومناهجها باعتبارها أهم التحديات التعليمية القادمة التي ينبغي أن تفرز لنا تعليما نوعيا مختلفا يفرضه روح العصر ومستجداته.
تقبر قدرات ومواهب وطاقات إبداعية كثير ولا يتم تقديرها لا لشيء إلا لأن هذه الأنظمة التعليمية بنيت مناهجها وفق هيكل هرمي غير فعال، لذا ينبغي أن تأتي كل مواد هذا الهيكل في مستوى واحد يعني بأن تكون مثلا مواد الرياضيات واللغات والعلوم الإنسانية والفنون على نفس القدر من الأهمية والتقييم، وأن يكون الإبداع في أي مادة من هذه المواد لا يقل أهمية عن الإبداع في غيرها، بمعنى آخر أن يقوم النظام التعليمي على دعم الإبداع بدل قمعه، لذا يلزم تغيير المحتوى التعليمي، وتطوير المناهج التعليمية لتتناسب وتحديات العصر ومتطلباته الحقيقية.
ولا ينبغي التركيز في الأنظمة التعليمية على الشحن المعرفي بقدر ما ينبغي أن يوجه التعليم فيها نحو تنمية القدرات والمهارات العليا وإبراز المواهب والطاقات الإبداعية، وأن يكون ذلك بمثابة الهدف الكلي للنظام التعليمي عامة بإخراج أكبر عدد من المبدعين الذين يمتلكون القدرة على التفاعل مع الحياة العملية بشكل إيجابي، وأن لا يكون مخرج النظام التعليمي هو الحصول على عدد هائل من حملة الشهادات العلمية التي ليس لها قيمة عملية فعالة؛ أي لا يمكن أن يعتمد الفرد فيها على قدراته ومهاراته بعينها بقدر ما سيربط بما ترصده الحكومات من فرص شغل، فلا يعود الشخص هو من يتحكم في ما سيمتهنه بعد تخرجه بل سيكون معلقا بمباريات التوظيف التي تخصصها الدولة.
لذا أصبح لزاما أن تعيد الحكومات العربية التفكير في نظرتها للتعليم الذي يمكنه أن يقود شعوبها إلى مستقبل مشرق ومزدهر، ولن يحدث ذلك إن لم يتم الرفع من حجم المسؤولية والمهمة المحمولة على عاتقها وعلى المسؤولين فيها على قطاع التعليم، فالإصلاح الحقيقي يحتاج لإرادة وعمل جبار لا إلى النوايا فقط. ينبغي الاعتراف في نهاية المطاف أننا لسنا فقط بحاجة إلى إصلاح هيكلة أنظمتنا التعليمية العربية بل إلى إعادة بنائها من جديد، لتوفير أنظمة تعليمية متكيفة مع الحاضر المتطور وقادرة على مواجهة المستقبل الذي سيصبح أكثر تطورا وتعقيدا، وهذا لن يتم أبدا إن لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية قوية بعيدة كل البعد عن التبعية للإملاءات الدولية.
أضف تعليقك