• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم سمية الغنوشي

قبل أيام قليلة، غرقت مركبة في سواحل جزيرة قرقنة في الجنوب التونسي، تضم مهاجرين تونسيين وأفارقة، وأودت بحياة عشرات الشباب في عرض البحر. 

لا شك أن الهجرة التي باتت تجتذب عددا واسعا من شباب المغرب العربي ظاهرة مركبة ومتعددة الأسباب والأوجه، بيد انه من التبسيط المخل إرجاعها إلى دواع اقتصادية واجتماعية بحتة.

فالجيل الجديد من الشباب المهاجر ليس أشد فقرا واحتياجا من الآباء الذين لم تستهوهم الهجرة ومغادرة الوطن.

كما أن الكثير من الذين يمتطون زوارق الموت ليسوا في الحقيقة في وضع العوز والحاجة الملحة، فمنهم من ينحدر من عائلات متوسطة وبعضهم يحمل تكوينا جامعيا أصلا.

بينما كان مفهوم الحاجة الضرورية عند جيل الآباء والأجداد يقتصر على توفير مواد الغذاء الأساسية والكساء والمسكن البسيط، أي توفير ضروريات العيش ولو في حدها الأدنى، فإن ضرورات الحياة عند الجيل الجديد تعني البيت المريح والسيارة والوظيفة المستقرة، ما يعني تغيرا كاملا في سلم المقاييس ومعنى الحياة بين الأجيال.  

وإذا لم يكن من المسلّم به أن الشباب المهاجر عبر البحر ليس بالضرورة ممن يقاسي مرارة الفاقة، فما الذي يدفع هولاء إلى ركوب مخاطر البحر والإقدام على المغامرة التي تنتهي بالكثير منهم غرقى في عرض البحر؟

يقف خلف موجات الهجرة المتدفقة من دول المغرب العربي ما يمكن تسميته بالحلم القاتل، أي توهم أن مجرد العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط يعني بلوغ الرفاه والرخاء والثروة.

هذا الحلم السام بات يشل الطاقة وروح العمل والمثابرة لدى كثير من شباب دول المغرب العربي، ويدفع إلى العطالة الكاملة، وملازمة المقاهي وتبديد الأوقات في انتظار فرصة "الحرقة" إلى الحدود الإيطالية أو الإسبانية، ومنها التسلل إلى بلدان أوروبية أخرى.

وعوض أن تكون الحاجة حافزا لبذل الجهد والعمل ومغالبة ظروف العيش، باتت مبررا للكسل والانصراف عن الجد والكد والسعي لفتح دروب المغامرة والبحث عن الرزق.

لا شيء يقنع الشباب بعدم التفكير في الهجرة سوى الحصول على وظيفة قارة في الدولة وراتب ثابت. وبما أن الدولة المثقلة المترهلة بات لديها من الخريجين ما يفيض عن حاجتها أضعاف المرات، ولم تعد قادرة على استيعابهم في الوظيفة العمومية، لم يبق ما يطمح اليه هولاء غير الهجرة إلى أوروبا.

واذا تعذر ذلك بالطرق القانونية فلا مناص من امتطاء قوارب الموت وركوب الأمواج المتلاطمة، أملا في بلوغ جنة الرفاه، من دون تفكير جدي في ما ينتظره من قسوة الحياة والعنصرية في مجتمعات مأزومة تشهد صعودا للتيارات اليمينية المعادية للمهاجرين، ناهيك عن احتمالات الانحراف والتيه في شبكات الجريمة. 

وساهمت تقنيات التواصل الحديثة في تغذية حلم الهجرة إلى العواصم الأوروبية، ومن ثم تعميق الشعور بالغبن والاحتقان لدى قطاعات واسعة من شباب المغرب العربي.

وهنا يمكن القول إن هذه الدول تدفع ما يمكن تسميته بضريبة الجغرافيا بإيجابياتها وسلبياتها، أي إن قربها الجغرافي من أوروبا قد جعل حلم الانتقال إلى الضفة الأخرى من البحر يبدو في المتناول، يكاد يراه حالمو الهجرة رأي العين. 

هذا القرب الجغرافي قد عمق الهوة بين الواقع وسقف طموحات وتطلعات شباب المغرب العربي، الذي يشاهد الفضائيات والأفلام الغربية، ويبحر في عالم الإنترنت ولا يرى مبررا إلا يعيش هو أيضا مثل أقرانه في باريس وروما وبروكسل، وغيرها من العواصم الأوروبية، دون تقدير للمسافة الاقتصادية والمالية التي تفصل بين دول الشمال والجنوب.

فالواقع عربي وأفريقي.. والحلم أوروبي وأمريكي.. والمسافة بين الخيال والواقع المعيش لا تملك دولنا تذليلها..

نحن هنا إزاء شباب ممتلئ بالشعور بالغبن والفقر (وهناك فرق بين الفقر الفعلي والشعور بالفقر) ويمتزج ذلك بمشاعر الاحتقان والغضب التي تغذيها أغاني الراب والموسيقى الشبابية الصاخبة.

وزادت التقلبات السياسية التي مرت وتمر بها دول المغرب العربي في الترفيع من منسوب التوتر والغضب، بل التمرد على الأوضاع العامة والمؤسسات والمحيط الاجتماعي وكل شيء.

نحن إزاء شباب يستنكف من العمل في قطاع الزراعة والبناء والأشغال العامة والخدمات، شباب ممتلئ بالمرارة والغضب مثل الديناميت المتفجر، ولا يرى من خلاص إلا في مغامرة الهجرة يحقق بها حلمه في التحرر والثروة وإثبات الذات.  

طبعا، لا يمكن تحميل الشباب مسؤولية أوضاعهم السيئة أو إقدامهم على الانتحار في عرض البحر، فخلف هذه الظاهرة تقف خيارات تنموية خاطئة تراكمت اخلالها لعقود طويلة، ونظام تعليمي مشوه أمسى آلة ضخمة لتخريج العاطلين والغاضبين.

وكان تركيز التنمية في المركز والشريط الساحلي في بلد مثل تونس، مع نسيان مناطق الظل في الداخل والجنوب، ما غذى عوامل الثورة والتمرد على الحكم، واليوم ها هو يدفع بالشباب المحتقن باتجاه موجات الهجرة غير الشرعية وشبكات الجريمة وغيرها من المتاهات.

ورغم أن انتشار التعليم من المكاسب المهمة لدولة الاستقلال، التي لا يمكن التهوين من شأنها، إلا أن المبالغة في نشر التعليم الجامعي على حساب التكوين المهني وتوفير التاطير والتاهيل الذي يناسب حاجيات سوق الشعل الداخلية والدولية قد جعل من الجامعات فضاءات لتخريج أنصاف المتعلمين والعاطلين الحانقين. 

وإذا كانت الدول الأوروبية نفسها، وخصوصا في جنوب المتوسط، مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان وحتى فرنسا، تشكو من ارتفاع نسب البطالة، وحتى الهجرة باتجاه الشمال الأوروبي، فما بالك ببلاد مثل تونس أو المغرب اللتين تشكوان قلة الموارد والإمكانيات؟!

رغم أنه لا توجد حلول جذرية للتغلب على ظاهرة الهجرة وقوارب الموت، إلا أن مراجعة الخيارات الاقتصادية والتنموية والتعليمية تظل أهم المداخل للتخفيف من وطأة الأزمات وحالة الإحباط التي تخيم على الشباب. 

فما الذي يبرر تكديس أعداد هائلة من الطلاب في الجامعات بدل توجيههم إلى ما ينفع، ويكونوا تقنيين وحرفيين ومهنيين وصناعا مدرّبين يشتغلون بأيديهم؟!

كما أن الدول المغاربية بما في ذلك النفطية منها، كالجزائر، تبدو عاجزة عن معالجة إخفاقاتها المتراكمة لسنوات طويلة.

لذا فإن قدرا من التكامل الاقتصادي والتنموي بين دول المغرب العربي يظل أمرا ملحا للتخفيف من حجم الأزمات التي تعصف بالمنطقة ومنح الشباب والأجيال الجديدة شيئا من الأمل المفقود والحد من منسوب اليأس والإحباط، وما يحمله من مخاطر مجتمعية وسياسية هائلة.

أضف تعليقك