حين يجتمع قادة أو وزراء لدول الحصار على قطر فهذا يعني أن هناك مؤامرة جديدة، أو استعجالا لتنفيذ جزء من مؤامرة قائمة، أو تطويرها، وقد جاء اجتماع وزراء الإعلام في الدول الأربع، يوم الإثنين الماضي، في أبو ظبي في سياق ترتيب هجمة جديدة وقوية ضد الإعلام المناهض لهذه الدول خارج البلدان الأربع، والمقصود هنا بشكل خاص قناة الجزيرة والقنوات المصرية المهاجرة ( الشرق ووطن ومكملين)، هذا هو وقت الإعلام والعمليات المخابراتية، ولذا ليس مستبعدا حضور ممثلين لأجهزة مخابرات الدول الأربع لهذا الاجتماع الوزاري الإعلامي، فجزء كبير من التوصيات سيكون مصدره تلك الأجهزة، كما أن جانبا كبيرا من التنفيذ سيكون مسئوليتها أيضا.
تتولى أبو ظبي مسئولية الترتيبات الإعلامية في الثورة المضادة ضد ثورات الربيع العربي عموما، وسبق لها أن أسست منظومات إعلامية كبيرة في مصر وتونس وليبيا، وأنفقت مليارات الدولارات على هذا الإعلام عقب اندلاع ثورات الربيع مباشرة، ونجحت في شراء غالبية نجوم الفضائيات والصحف المصرية والتونسية، وساهم إعلامها في مصر مثلا بدور كبير في تعبئة قطاعات كبيرة من الشعب ضد حكم الرئيس مرسي، تمهيدا للانقلاب العسكري ضده، وهو الشيء الذي لا تزال تمارسه في تونس وليبيا واليمن وبلدان أخرى، كما أنها على الأغلب هي التي مولت صفقات شراء المخابرات المصرية أو تأسيسها لأهم القنوات الخاصة خلال العامين الماضيين، وها هي أبو ظبي تواصل قيادتها للفتنة، والحرب على ما تبقى من إعلام الثورات العربية في المنافي، عبر استضافتها المتكررة للمسئولين الرئيسيين عن إدارة المنظومات الإعلامية الرسمية، سواء كانوا وزراء أو وكلاء وزراء، أو رؤساء قنوات أو صحف أو وكالات أنباء، أو مجالس إعلامية.. إلخ، للبحث عن أنجع الطرق وأسرعها للتخلص من “صداع” القنوات والمواقع المعارضة التي تبث من خارج حدودها.
تزداد وتيرة التآمر مع أجواء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة في تركيا، وتريد دول الحصار أن تستغل هذه الأجواء للخلاص من حكم الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، ليتسنى لها بعد ذلك الخلاص من القنوات الثورية التي تعمل على الأرض التركية، وليس مستبعدا على تفكير دول الحصار (مصر-السعودية- الإمارات-البحرين) استغلال أجواء الانتخابات التركية وما يصاحبها من اضطراب سياسي وأمني، وانشغال السلطات الأمنية والسياسية التركية بتلك الانتخابات لتنفيذ عمليات قذرة بحق بعض الإعلاميين المناوئين لحكام دول الحصار، وخاصة مصر التي هدد حاكمها المشير السيسي بمحاسبة هؤلاء الإعلاميين.
تنفق دول الحصار ومنذ زمن بعيد ببذخ على الإعلام، وصنعت إمبراطوريات إعلامية ضخمة خارج حدودها، لكن هذه الإمبراطوريات الضخمة التي تستنزف مليارات الدولارات لم تصمد أمام قنوات ومنابر صغيرة أو متوسطة تمتلك مصداقية عالية، نتذكر مثلا أن ظهور قناة الجزيرة في العام 1996 مثَّل تحديا كبيرا للإمارات والسعودية، حيث حازت القناة الوليدة ثقة المشاهد العربي بحكم ما قدمته له من وجبة إخبارية دسمة، وما قدمته من أفكار وآراء متعارضة ومتباينة لم يكن المشاهد العربي معتادا عليها، وقد حاولت الإمارات منافسة هذا المارد فاهتمت بقناة أبو ظبي التي كانت قد انطلقت قبل الجزيرة بأربع سنوات (15 تشرين الثاني 1992)، ومنحتها الدولة مساحة من الحرية والدعم المالي لتنافس الجزيرة لكنها لم تستطع الصمود كثيرا، فعادت إلى سابق عهدها، كما حاولت السعودية منافسة الجزيرة بإطلاق قناة العربية في 3 مارس 2003، ولكنها لم تستطع الصمود أيضا، ولم تنجح في استقطاب المشاهد العربي، نجحت السعودية فقط في الإعلام الترفيهي من خلال شبكات إيه أر تي، وإم بي سي، وإل بي سي، وروتانا، لكن هذه الشبكات الضخمة لم تسعفها سياسيا في مواجهة الجزيرة أيضا، ربما كانت التجربة الناجحة لكل من الإمارات والسعودية هي القنوات التي تم إنشاؤها في مصر عقب ثورة يناير 2011، والتي أسهمت بقوة في حشد قطاعات كبيرة من الرأي العام ضد الرئيس مرسي كما أسلفنا، لكن هذه القنوات فشلت مجددا في مواجهة 3 قنوات فقط تمكن مناهضو الانقلاب من إطلاقها، في ظل ظروف مالية وإدارية صعبة، وقد بدأت الحرب على هذه القنوات مبكرا، وزادت ضراوتها بعد تزايد مشاهديها، وقدرتها على الوصول إلى شرائح جديدة كانت من قبل أسيرة الأذرع الإعلامية للسيسي، فسخرت سلطة الإنقلاب في مصر كل إمكانياتها لمحاربة هذه القنوات، والتشويش عليها، وقد ثبت أن عمليات التشويش كانت تتم من مراكز عسكرية مصرية، كما سعت حكومة السيسي لدى أصدقائها الغربيين لوقف بث تلك القنوات، وأتذكر أن النائب العام المصري الراحل زار باريس قبيل وفاته، وكان يحمل معه ملفا لما وصفه بخروقات هذه القنوات ودعواتها للعنف والتحريض على القتل إلخ، وطالب الحكومة الفرنسية بوقف بثها على القمر الأوروبي، كجزء مكمل لصفقة الرافال والميسترال التي وقعتها الحكومة المصرية مع فرنسا بحوالي سبعة مليارات يورور، وكان واضحا أنها صفقة سياسية بالأساس، أي بهدف شراء دعم سياسي فرنسي، لكنَّ تحركًا قانونيًّا سريعا لنشطاء مصريين في باريس ضد النائب العام وقتها، وتقديم بلاغ ضده يطالب بالقبض عليه ومحاكمته بتهمة المشاركة في قتل معتصمي رابعة، حيث كان هو صاحب أمر الفض، دفعه للهرب سريعا والعودة إلى مصر قبل أن يكمل مهمته، كما أن السلطات الفرنسية اعتبرت طلب النائب العام لوقف بث القنوات مجرد نكاية سياسية، خاصة أن ملفًا معاكسًا قُدم للسلطات الفرنسية أيضا حول تحريض القنوات الداعمة للنظام على قتل المصريين، والتحريض على كراهيتهم.
بعد فشل تلك الجهود ها نحن أمام جولة جديدة في الحرب على تلك القنوات، التي لم تعد دول الحصار تحتمل وجودها بعد أن وصل صوتها إلى داخل حدودها، وبعد أن نجحت في تعرية حليفها (السيسي)، وأصبح المطلب الرئيسي لدول الحصار الآن هو إغلاق الجزيرة وقنوات الشرق ووطن ومكملين، وبعض المواقع الإخبارية الأخرى، وهكذا “تتقازم” تلك الدول أمام قنوات إعلامية لم تستطع منافستها بشكل طبيعي، فلجأت إلى استخدام التهديدات المفتوحة على كل الاحتمالات.
أضف تعليقك