بقلم: سمية الغنوشي
قبل أشهر قليلة، فتح وزير خارجية البحرين خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة؛ المصدح، وتحدث من منبر الجامعة العربية في القاهرة عن ضرورة الالتزام بحماية الأمن القومي العربي.
من يستمع لمثل هذا الخطاب "القومي" يخيل إليه أنه إزاء استفاقة عربية فعلية في مواجهة التحديات والمخاطر الجليلة المحدقة بالأمن العربي.. لولا أن خواتيم الكلام تنقض مقدماته، والأمور بخواتيمها، كما يقال.
لقي حديث الوزير المغوار عن الأمن القومي العربي؛ القبول الحسن لدى قادة النظام الرسمي العربي الحاليين، أي مصر والسعودية والإمارات والبحرين، المنكبين على صياغة نظرية "جديدة" وغير مسبوقة للأمن القومي، على مقاسهم ووفق أهوائهم، بعيدا عن معطيات التاريخ والجغرافيا.
هذه النظرية العبقرية مفادها أن إسرائيل لم تعد عدوا أو حتى خصما أو منافسا في منطقة الشرق الأوسط الكبير، بل باتت حليفا موثوقا وشريكا عزيزا مبجلا. وهي نظرية في الحقيقة تتساوق تماما مع رؤية الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز حينما كان وزيرا للخارجية، ودوّنها في كتابه المعروف "الشرق الأوسط الجديد"، حيث تحدث عن الجمع بين العبقرية الإسرائيلية والمال العربي لبناء شرق أوسط جديد، أي المال الخليجي بدرجة أولى، وهو ما يجري فعلا اليوم على أرض الواقع.
هذه النظرية العبقرية مفادها أن إسرائيل لم تعد عدوا أو حتى خصما أو منافسا في منطقة الشرق الأوسط الكبير، بل باتت حليفا موثوقا وشريكا عزيزا مبجلا
وبما أن نظرية الأمن القومي الجديدة التي وضعها النظام العربي قد حددت هوية الصديق أو الحليف، فقد عرّفت بالضرورة جبهة الأعداء الحقيقيين أو المحتملين. وهؤلاء على التوالي هم: الفلسطينيون، ثم تركيا وإيران، وشيء مبهم وغامض اسمه "الإسلام السياسي".
ولم يتردد هؤلاء القادة الأشاوس في تجسيد نظرية الأمن القومي المستحدثة عبر جوقة المثقفين والكتاب والمعلقين الذين كلفوا بالترويج لهذه العقيدة الأمنية الجديدة، واختراق ما كان يعد محرما في الخطاب العربي.
قبل أيّام قليلة، دوّن المستشار السعودي خالد الأشاعرة يسب الفلسطينيين في ذكرى النكبة السبعين، ويدعو الله في أول أيّام رمضان "أن ينصر إسرائيل على عدوها وعدوّنا".. أي أهل غزة المحاصرين برا وبحرا وجوا؛ بقرار إسرائيلي أمريكي وغطاء عربي.
ثم لم يكتف بتأكيد صحة نسبة التغريدات له، بل أنكر في إحدى القنوات الفضائية بأن الفلسطينيين يمثلون شعبا اليوم، فإن هم إلا "مجموعة من المرتزقة القتلة"، على حد تعبيره.
احتفت وزارة الدفاع الإسرائيلية بهذا الخطاب "المستنير"، وعدته تجسيدا للعقلانية في أبهى صورها
طبعا، احتفت وزارة الدفاع الإسرائيلية بهذا الخطاب "المستنير"، وعدته تجسيدا للعقلانية في أبهى صورها، يقطع مع "المنطق المريض" الذي شحن النفوس العربية بالحقد والكراهية "ضد المشروع الصهيوني الذي لم يكن سوى مشروع وطني للعودة إلى ـرض الأجداد".
ليس الأشاعرة في الحقيقة إلا نموذجا فجا لبعض الأقلام الخليجية المعبرة عن توجهات النظام العربي الجديد، بدعم وإسناد من جهات القرار العليا، باتت تُفتح أمامها كل القنوات والمنابر الإعلامية لأداء الدور المنوط بعهدتها، أي الترويج لنظرية الأمن العربي الجديدة، واختراق كل الخطوط الحمراء والخضراء التي استقرت في الوعي والوجدان العربيين جيلا بعد جيل.
كان من الممكن أن نعتبر ما قاله الأشاعرة رأيا شخصيا أو محض هذيان من كاتب خليجي، لو كانت ثمة فسحة لحرية التعبير في السعودية تتيح سماع أصوات متباينة والتعبير عن الراي المختلف. والحال أن كل من يعبر عن مواقف تخرج عن الخطوط المرسومة يخرس ويزج به في السجن، بغض النظر عن الخلفية الفكرية والتوجهات السياسية، نسويات ومثقفين ومدونين وعلماء دين، ليبراليين وإصلاحيين إسلاميين.. كل هذا يدل على أن كلام الأشاعرة يلخص الموقف الرسمي للجهات العليا في الدولة السعودية اليوم.
في السياق ذاته، احتفل السفير الإسرائيلي في قلب القاهرة بالذكرى السبعين لقيام إسرائيل، وحضر ليشاركه تورتة النكبة ممثلو وسفراء دول عربية، كمصر والإمارات والبحرين.
وسبقت ذلك بأيام قليلة مشاركة فريقي الإمارات والبحرين في سباق (رالي) في القدس تزامن مع ذكرى احتلال فلسطين وتشريد أهلها، ورفعت فيه الأعلام الإماراتية والبحرينية بشكل احتفائي.
لا يحتاج المرء للكثير من الفطنة والذكاء كي يجمّع هذه التصريحات والمواقف، ويدرك أننا إزاء معسكر عربي تقوده مصر والسعودية والإمارات والبحرين يتجه إلى تزييف الوعي العربي بصورة متعمدة ومنهجية
وقبلها بأسابيع تواترت تصريحات ولي العهد السعودي لصحف أمريكية لتؤكد بأن لإسرائيل "الحق في التواجد على أراضيها"، وأن "القضية الفلسطينية ليست من أولويات المملكة"، فيما دافع البحرين عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" بعد قصفها دمشق بالصواريخ.
لا يحتاج المرء للكثير من الفطنة والذكاء كي يجمّع هذه التصريحات والمواقف، ويدرك أننا إزاء معسكر عربي تقوده مصر والسعودية والإمارات والبحرين يتجه إلى تزييف الوعي العربي بصورة متعمدة ومنهجية، والتخلي عن الحد الأدنى من المسؤوليات الوطنية والقومية والإسلامية، بل الخروج حتى عن القانون الدولي الذي يعتبر إسرائيل دولة احتلال.
بغية ترويج هذه العقيدة السياسية والأمنية الجديدة وتأسيسها، سُخِّرت جوقة من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين، مكلفة بشيطنة هؤلاء الخصوم
يتم ذلك عبر إعادة رسم خطوط الصراع وتحديد الحلفاء والأعداء؛ بزعم أن الخطر الجديد لا يتأتى من إسرائيل ولا المشروع الصهيوني المهدد لكل المنطقة في أمنها واستقرارها ومستقبل أجيالها. مكمن الخطر، بل الخطر في حد ذاته وفق هذه الرؤية، هم الفلسطينيون أولا، ثم يليهم محور الشر الثلاثي الذي تمثله إيران وتركيا والإسلام السياسي.
وبغية ترويج هذه العقيدة السياسية والأمنية الجديدة وتأسيسها، سُخِّرت جوقة من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين، مكلفة بشيطنة هؤلاء الخصوم المتوهمين والتهجم عليهم وتبييض صفحة العدو الحقيقي المتربص بالمنطقة وشعوبها شرا.
وليس ذلك إلا مقدمة لتمرير ما يعرف بصفقة القرن الرامية إلى فرض مشروع الاحتلال على الفلسطينيين، وتفويت الأرض التي التهمها الاستيطان وتهويد القدس، ومن ثم إغلاق هذا الملف إلى غير رجعة، ورفع كل الحواجز أمام هذه التحالفات الاستراتيجية الجديدة.
لا عجب إذن أن يعد الفلسطينيون من أهل غزة أو القدس الذين تجرّؤوا وانتفضوا على هذا الضيم والعبث بحقوقهم وقاموا للتصدي له، رغم الاحتلال والتنكيل، أن يُعتبروا المنغص الأكبر لصفقة القرن، ومن ثم الخطر الأعظم على النظرية المستحدثة للأمن القومي.
ليس ذلك إلا مقدمة لتمرير ما يعرف بصفقة القرن الرامية إلى فرض مشروع الاحتلال على الفلسطينيين
سبق وأن عرف العالم العربي، في تاريخه القريب والبعيد، صورا شتى من خيانات الساسة وتفريطهم في الحقوق، ولكن لم يسبق أن عرف حكاما ينخرطون بصورة كاملة في معارك العدو، ويضعون سلاحهم مع سلاحه ويصوبونه في صدر الضحية، على نحو ما نراه اليوم.
منذ نكبة فلسطين خبر الفلسطينيون والعرب ضروبا شتى من التخاذل والتواطؤ مع الاحتلال والقوى الكبرى الراعية له، إما حرصا على كرسي الحكم والنفوذ، أو خضوعا لإملاءات القوى الدولية الكبرى، لكنهم لم يشهدوا قط هذا التبني الكلي لرؤية المحتل والاندراج في جبهته السياسية بهذه الصورة الفجة والمعلنة.
الترجمة العملية لنظرية "الأمن العربي" التي ابتدعها قادة الخليج الجدد هي ما نراه عمليا، من قدح في الفلسطينيين وتهجم عليهم وتحميلهم مسؤولية المآسي التي سلطت عليهم، من حصار وتجويع وتدمير للحد الأدنى من مقتضيات الحياة.
مشكلة هذا الجيل الجديد من الحكام الذي أعمته شهوة السلطة والمال، أنه يفتقد الحد الأدنى من الحس التاريخي، ولا يدرك قوانين الجغرافيا والاجتماع في هذه المنطقة من العالم
وهي تتبدى أيضا في نسج علاقات تحالف عضوي مع إسرائيل واللوبيات اليمينية والصهيونية المرتبطة بها في الولايات المتحدة الأمريكية وسائر العواصم الغربية الكبرى.
مشكلة هذا الجيل الجديد من الحكام الذي أعمته شهوة السلطة والمال، أنه يفتقد الحد الأدنى من الحس التاريخي، ولا يدرك قوانين الجغرافيا والاجتماع في هذه المنطقة من العالم.
هذه الرقعة التي ردت غزاة ومحتلين، وصدت مغامرين وابتلعت آخرين، كانت وما تزال تعتبر القضية الفلسطينية الميزان الرئيس الذي تقاس به المواقف والسياسات ويوزن به الرجال، رغم الصلف والعبث ومحاولات تزييف الوعي.
لقد حكمت أيديولوجيات وأنظمة وعمرت عقودا متتالية في أكثر من بلد عربي استنادا إلى شرعية فلسطين ومقاومة المشروع الصهيوني. لم يكن ذلك مجرد خدعة أو جهلا من الرأي العام العربي الذي قبل بها، بل لأنه يدرك بأن فلسطين قضية كبرى تولى الأولوية المطلقة، وإن اقتضى الأمر أن يضحي بأولويات أخرى.
ولو كان لهؤلاء القادة الجدد شيء من الحكمة لأدركوا أن فلسطين، مثلما يمكن أن تبني شرعيات وتقيم حكومات، كفيلة أيضا بالإطاحة بشرعيات واستنزاف حكومات وأنظمة، مهما علت وتجبرت.
الرأي العام العربي والإسلامي، وإن بدا ضعيفا منصرفا إلى شؤونه اليومية في الظاهر، إلا أنه يدرك تماما أين تقع خطوط التمايز بين الصديق والعدو. وهو لن يقتنع في كل الأحوال بأن إسرائيل نتنياهو هي الحليف وأن الفلسطينيين والأتراك والإيرانيين هم العدو. واهم من يتصور عكس ذلك، ومن الأوهام ما هو قاتل، إذا استبد بصاحبه أودى به إلى التهلكة.
أضف تعليقك