• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

مثلت ثورة يناير بما دفقت به من أحداث وتوالت عليها من أيام عملا متحركا حيا أحيا الموات، واستنهض الضعفاء، واستنفر فتوة الشباب، إنها الثورة التي تثير كل شيء، وتقلب الأمور، فلا تترك أمرا على حاله، الثورة حياة جديدة، فكانت تلك الشرارة الأولى من كل هؤلاء لتفجر طاقة الفعل والفاعلية، إذ جعلت الثورة أهم معطيات زمنها تحرك الحلم، وتدافع التحدي، وتؤذن بمفتتح تغير كبير، ومن هنا فإن الثورة حادث ملتهب ألهب حماسة الشباب، واستنفر شعبا بأسره، ليجعل من تلك الأشواق في تغيير كبير وحياة جديدة كل أمل لجيل فات وجيل آت، حملت الثورة الحلم، ودفعت كل المعاني التي تتعلق بتلك المشاكل والتحديات التي أثقلت كاهل الناس لقد نفضوا عنهم الغبار وانتفضوا، كان هذا الحدث ينبئ عن حالة حركة دائبة، فتح كل نوافذ التغيير وكل أبواب عمليات التفكير وتحركت الأمور نحو وعي كبير وحالة تغيير ينشد الإصلاح الجذري والتأثير. 

هذه كانت الثورة، فماذا أراد هؤلاء من علماء السياسة الذين وقف بعضهم يتثاءب والثورة ثائرة فائرة، أو يقول إن الحدث لم يكتمل وعلينا أن نترك الظاهرة حتى تبرد فنقيمها دراسة وفحصا وبحثا، اعتذر هؤلاء على نحو أخر عن حدث كان فوق استيعابهم وعن حالة فوران كانت فوق تقديرهم، وتأنق هؤلاء وحاولوا الإمساك بالظاهرة فإذا هي ملتهبة، وتصور البعض منهم أن ما يحدث كان مجرد فورة واحتجاج أو هو تمرد قد تطور، ولكن هؤلاء في حقيقة الأمر الذين لفوا وداروا حول ظاهرة الثورة كانوا أشبه بوظيفة الحانوتي، الحانوتي الذي لا يجيد من مهنة أو صنعة إلا أن يجهز الميت بالكفن تمهيدا لدفنه، إنه الذي يتمنى موت المريض حتى يقوم بعمل لا يجيد إلا هو، إنه الذي يفشل في التعامل مع العالم الحي ولا يجيد إلا التعامل مع الجسد الميت، وبدا هؤلاء لا يجيدون إلا رطانة العجز والفشل والانتظار، هكذا فقد بعض هؤلاء أهم عنصر يتعلق بمهارة الباحث السياسي حينما يمسك بالظاهرة وهي في أشد درجات فورانها والتهابها، إنه ليس باحث التاريخ ينتظر حتى تنقضي الأيام وتموت الظاهرة وتكفن حتى يمكنه الدراسة والبحث، الحانوتي ينتظر الموت حتى يتحرك ويمارس مهنته. 

كان حانوتية السياسة لا يجيدون إلا حديثا مع النخب وما هي بهذا الوصف ولا تستحقه، إنه يبحث مع أهل الميت من نخبة ليتفق معهم على كل شيء، نسى هؤلاء إذا أردوا أن يكونوا في عالم السياسة الحقة فلتتحدث مع الناس وإلى الناس، وادعاء الحكمة ليس في موت المعاني ولا في برودة الكلام ولكنها في حقيقة الأمر توليد الكلام الحي والنص الحر، فلغة السياسة في جوهرها بعيدة كل البعد عن لغة اليأس ولغة الرثاء، تولد السياسة والظواهر المتعلقة بها لا في أحضان دولة ولا في طغيان سلطة، السياسة تحيا في ميادين دنيا الناس، هي معرفة حق الناس والجماهير وحقوق الشعب والمجتمع.

والسياسي حينما يكتفي بمنطق الحانوتي ينتظر موت الظاهرة فيكفنها، إنما يسمح بأسوأ أمر يمكن أن يحدث وهو أمر يتعلق باختطاف السياسة ويشارك في أكذوبة بعد أكذوبة فيشارك في تلك الجريمة التي تتعلق باختطاف السياسة، فلا يخرج عن الباحث في السياسة من بعد ذلك كله إلا رطانة للوهم مشفوعة برطانة الزيف، فيتأمل ظواهر زائفة ضمن تهويمات السياسة البائسة، لقد اعتاد حانوتية السياسة دراسة الظواهر المزيفة وشكلوا أساطير ليست من السياسة في شيء، وبدا لهم يعكفون على ظواهر "كأن" وكأنها ظواهر حقيقية، وحينما انكشف كل هؤلاء بثورة هادرة وبالسياسة والظواهر الحقيقية انكشف ستر هؤلاء لأنهم لا يجيدون إلا التعامل مع الظواهر الزائفة أو أساطير واهمة أو ظواهر ميتة، ما بالهم حينما صفعتهم الثورة لاذوا بالصمت ينتظرون موتها كالحانوتي الذي ينتظر الميت حتى يكفنه. 

ليس هؤلاء علماء بالسياسة؟!، فإذا جد الجد وكشفت الظواهر الحقيقية عن معدنها وأتت الثورة لتفتح آفاق التغيير تملصوا ولاذوا بموضوعية كاذبة وبادعاء يسمح لهم بخذلان الظاهرة الثورية المنتظر لموتها، إن من أراد أن يرى السياسة بلا حركة ولا يتعامل إلا مع ظواهر الزيف فيها لا يعد من أهل السياسة في شيء، السياسة حياة دائمة وحياة الناس، فلا سياسة بلا مواطنين ومن رأى السياسة غير ذلك فهو خاطئ، إذا رأيت السياسي منحازا إلى السلطة فقد فقد جوهر السياسة ودوره فيها "سياسة الناس"، وإذا رأيته مع الناس فهو سياسي حقيقي يعود إلى حقيقة السياسة، وإن هؤلاء الذين ألفوا وأدمنوا ظواهر الزيف "كأن" ويتعاملون مع النخب الزائفة، فإنهم يخونون السياسة ويتركون الظواهر الحقيقية من دون دراسة بينما يتعلقون بالسراب السياسي لظواهر "كأن"، فلا يلتحمون بالناس ولا يتعرفون على حقائق التغيير ولا مسلك التأثير. 

من المؤسف حقا أن تجد حانوتية السياسة وقد انخرطوا في سلك الدولتية يبررون لها ويتغاضون عن ظلم حكامها ومستبديها، أما الناس في عرفهم فهم غير مؤهلين للديموقراطية بؤساء فقراء وأن تأهلهم للديموقراطية يحتاج لوقت طويل، يحذرون من الثورة الجالبة للفوضى ويتحدثون عن الاستقرار، ولا بأس يسبون الناس؛ فالناس جهلة لا يعرفون والشعب متخلف لم يتقدم، والسلطة تمارس زيفها وهم منهمكون في دراسة الزيف والظواهر المزورة لمؤسسات كأن المتوهمة، بحوث بعد بحوث وكتب بعد كتب ولا يزال هؤلاء ينتظرون موت الظواهر الحقيقية حتى يقومون بتكفينها. 

فمن لهذه الظواهر الحية والظواهر السياسية الحقيقية، وما بال هؤلاء لا يجيدون إلا الحديث عن الأزمات والأمراض التي تشرف بصاحبها على الهلاك والتخلف المقيت المميت، فإن أتى آذان وإذن التغيير انصرفوا على استعجال كأنهم يفرون من شعوبهم وآمالهم في التغيير، إنهم لا يحسنون إلا التعامل مع الزيف أو مع الموت، أخطر ما حدث من علماء السياسة لدراسة ظواهر تتعلق بالتغيير، هو الانتظار حتى تموت هنا فقط سيتقدم لا طبيبا وإنما حانوتيا سيقلب الظاهرة ويعد لتكفينها فقد مات التغيير، ويظل في حال انتظار ظرف موت المريض فيتحدث عن الظواهر المرضية والظواهر الزائفة، إنه الحانوتي الذي احترف التعامل مع موت الظواهر لا التعامل مع الظواهر الحية والحقيقية والمؤثرة فيخذل الظاهرة الحقة ويدعي الحكمة ويلوذ بالصمت ويصطنع الحزن، لكنه سيتفق مع أهل الميت على أجرة عمله في التكفين، لم يعد يجيد إلا سياسة الأموات، ولا يتعامل مع عالم الأحياء وعالم الناس الحي، بئس حانوتية السياسة هؤلاء لا يحسنون إلا الانتظار فلا يتحركوا إلا عند موت الظواهر ولا يقدمون شيء لتغيير كبير منشود أو ثورة حقيقية، وربما يحسنون توزيع بطاقات التعريف بهم رغبة في استدعائهم عند اللزوم "هم جاهزون للقيام بكل أعمال الحانوتية في تكفين الظواهر الحية".  

أضف تعليقك