أحمد فتحي هنداوي
باحث دكتوراه العلوم السياسية
يظن البعض أن السلفية المعاصرة هي امتداد لحركة الشيخ محمد عبد الوهاب، وأن التيار السلفي المعاصر في مجمله هو نتاج لها، مما جعل تبيان أخطاء هذه الدعوة المعاصرة وسلوكياتها كأنه هجوم على مقام الشيخ، فيتبارى المخلصون في الدفاع عنه وعن جهوده. ولعل هذا الأمر دبر بليل لإخفاء حقيقة التحريف السياسي والانقلاب على دعوة الإمام، وما طرأ عليها من تحريف وتبديل لمساراتها لتنافح عن منحى سياسي منبطح، وتوافق هوى أنظمة سياسية ظالمة.
هذه المقدمة يعللها التاريخ، وما قام به الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1911م من إعادة الإحياء العسكري للحركة الوهابية (إخوان من أطاع الله)، والتي اجتاح بواسطتها الجزيرة العربية، وأسس المملكة العربية السعودية، ثم ما لبث أن قضى عليهم بمساعدة بريطانيا في موقعة السبلة عام 1929م، وأسس لفكر وهابي جديد، صممه ليكون حائط صد عن نظامه الناشئ ضد أي منازع سياسي، عن طريق تصوير الجانب الاجتماعي من الشريعة على أنها مسلك الأنبياء في الدعوة إلى الله، وتصوير الجانب السياسي على أنه طريق الفتنة وغضب الرب.
واستمر هذا الشكل قائمًا من خلال المؤسسات السعودية الرسمية وغير الرسمية، من أهمها "هيئة كبار العلماء"، فتم توجيه سلطتها الدينية كصمام أمان للعرش السعودي، بداية من أحداث الحرم المكي 1979م، وانتهاء بتأييد محمد بن سلمان في علمَنَةِ المملكة والعمل ضد المذهب الوهابي نفسه.
فشاركت الهيئة في التخلص من نفسها لصالح ولي أمرها، معللة ذلك بأن: (المملكة العربية السعودية تأسست على الكتاب والسنة، ونحن مع ولاة أمرنا في كل ما يرونه مصلحة للبلاد والعباد)، وهذا مؤداه أن الهيئة تقوم بدور "المسوغ" الديني لقرارات العرش السعودي على حساب مرجعيتها من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. وقامت المملكة بنشر هذا المنحى خارج حدودها، فبالتتبع التاريخي لمصر كأكبر ثقل ديني وشعبي في المنطقة، نجد الفكرة تجلت في أسوء مشاهدها في ثورتي 1952 و2011 كما يلي:
أولاً: جمعية أنصار السنة المحمدية وثورة 1952م:
والتي تعتبر الحاضنة الأولى للفكر السلفي في مصر، حيث تربي على أيدي شيوخها أغلب مؤسسي الجماعات السلفية المصرية. وباستعراض مؤسسي الجمعية الأوائل نلاحظ إقامتهم جميعاً في السعودية للتعلم والتدريس، بداية من الشيخ محمد حامد الفقي والذي مكث فيها ثلاث سنوات، بعد تأسيس الجمعية مباشرة عام 1926م، ثم الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الذي عُيِّن نائبًا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضوًا في مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، ثم الشيخ عبد الرحمن الوكيل والذي قبلها انتدب للعمل بالمعهد العلمي بالرياض ثم التدريس في كلية الشريعة بمكة المكرمة.
وأسست الجمعية نظرياً لعدة أفكار منها: فكرة كفر المشرع بغير الشريعة الإسلامية، وحرمة العمل الحزبي، فمن تقريرات الشيخ حامد الفقي في أهداف الجمعية (ومن زعم لنفسه حق التشريع فقد أعظم الفرية على الله، ونازعه رداء الهيمنة على الخلق، وإن استجاب أحد لهذا المدعي كان متخذاً له ربًّا، وكان من المشركين).
ويقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في "مجلة الهدي النبوي" الناطقة باسم الجماعة عن عهد الملك فاروق (1952-1936م): "وأنت إذا استنبطت ما وراء المظاهر، وأرسلت النظرة الكاشفة إلى الأعماق، وجدت كل هذه الأحزاب لها منهاج واحد وغاية واحدة تسعي إليها، هما الحكم بغير ما أنزل الله"، ولا شك أن فترة حكم الملك فاروق كانت فترة تتسم بعلمانية النظام السياسي الحاكم، فهو نظام علماني ليبرالي، يعتمد القوانين الأوروبية.
وخلافاً لمنهجهم النظري السابق نجد الجماعة كتبت عن الملك فاروق قبل ثورة يوليو 1952 في مجلة "الهدي النبوي" ما يلي: (شهدت مصر من الملك العادل، الناشئ في عبادة الله، المعلق قلبه بالمساجد، من آيات حرصه على الإسلام وتمسكه بشرائعه، ومحافظته على أحكامه، ما لم تشهده منذ زمن بعيد)، وقالت عنه: (فهو من ناحية العقيدة سلفي المذهب والمنهج)!، فهو بحسب الجماعة نظرياً منازع لله في حقوقه وفي هيمنته على خلقه، وعملياً الملك العادل السلفي المتمسك بالشرائع!
وبعد تحول الظرف السياسي بيد عسكر ثورة 1952 التي أطاحت بالملك فاروق، نجد في نفس المجلة خطاب موجه للواء محمد نجيب وفيه: (إن الجماعة تتشرف بأن تذكر الأبطال الذين قيضهم الله لإنقاذ هذا البلد من البغاة الظالمين، وابتعثهم لتطهيره من الفساد والمفسدين)، وهنا صار "الملك العادل" من "البغاة الظالمين المفسدين". ربما هذا التحول مقبولاً من باب البرجماتية السياسية التي لا تؤمن بالمبادئ الأخلاقية، ولكن أن تنسب هذه الأفعال لشريعة الله المطهرة، ولدعوة سلفية المنهج، فتلك هي المصيبة بعينها.
ثانيا: السلفية البرهامية وثورة 2011:
ورث برهامي الفكرة السلفية السعودية ككثير من السلفيين عن مشايخ جماعة أنصار السنة المصرية، ثم سافر عدة مرات إلى السعودية لأداء الشعائر وتلقي العلوم الشرعية والدعم المادي الغير مباشر. وقد أشار عبد المنعم أبو الفتوح في مذكراته: إلى أن السلفية السعودية أقحمت على المشروع الإسلامي في مصر، عن طريق رحلات العمرة، فقد كان بعض الطلاب يتخلف حتى موعد الحج، فيلتقي بعلماء السعودية، ليعود من الرحلة حاجاً معتمراً وشيخاً سلفياً.
واستطاع برهامي تطوير الفكرة وآليات العمل ومجالاته، وفُتح له الباب بليل، فوضع أصولاً منهجية لتحريم العمل السياسي الحزبي السلمي، كما في بحثه "السلفية ومناهج التغيير" مفادها: حرمة العمل السياسي داخل دائرة الحكم العلماني المصري، الأحزاب تقوم على مبادئ العلمانية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية خارجة عن الشريعة، المجالس التشريعية تسن قوانين مخالفة للشرع، ووجه دعوته لانتقاد جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من الحركات التي تتخذ العمل السياسي وسيلة للتغير وكذلك حركات التغيير المسلح.
وأكد تعاونه المخلص مع جهاز الأمن المصري حتى عام 1994م في القضاء على تيارات العنف السياسي كما في لقاء قناة الحياة. وتجلت أسوء مشاهد السلفية البرهامية في ثورة 25 يناير2011 حيث جابت مدن الجمهورية للدعوة ضد الثورة، وأصدرت البيانات مثل يوم 3 فبراير 2011 ووصفوا الثوار بقولهم: (ولن تَسمح الأُمَّةُ لبعض المتسلِّقين على أكتاف الجماهير -بل دمائهم- أن يُزايدوا عليها، ولن يَسمح بها الشعب ولا الجيش ولا الأزهر ولا الجماعات والاتجاهات الإسلامية جميعُها).
وتحسر البراهمة فيه على سقوط جهاز الشرطة فقالوا: (وها نحن قد رأينا كيف أَدَّى غيابُ مرفق واحدد -وهو الشرطة- إلى أنواع المفاسد والمخاوف والسَّلْب والنَّهْب؛ فكيف يطالِب البعضُ باستمرار ما يؤدي إلى الفوضى، فكيف إذا زاد الأمرُ بفَرَاغِ باقي المرافق)، بل وزاد الأمر بنزولهم لحماية وحراسة مقرات أمن الدولة والشرطة من الثوار.
وبعد سقوط مبارك سارع برهامي لتكوين حزب النور السياسي الضخم ليناطح جماعة الإخوان، ويفتت الإسلاميين، وفجأة انهال الدعم المالي على الحزب، فاستطاع أن يشترى المقرات في كل جوانب مصر، والإنفاق على المؤتمرات والدعاية الانتخابية بشكل فاق قدرة جماعة الإخوان نفسها، ولكن الكريم إذا وهب فلا تسأل عن السبب؟! وفي الانتخابات الرئاسية قام بتفتيت الكتلة التصويتية للإسلاميين ضد مرشح الإخوان، ومع تولي د. مرسي رئاسة الجمهورية، عملت الكتلة البرلمانية له ضد النظام واختياراته، وأثارت قضايا وهمية مثل: ادعاء "أخونة الجهاز الإداري للدولة"، وإلغاء "المادة الثانية من الدستور".
ثم شاركت السلفية البرهامية في انقلاب 3 يوليو، فأعادت النظام العسكري لحكم مصر، وظهر ممثلها "جلال مرة" في بيان الانقلاب ضد أول رئيس منتخب، معطياً المسحة الدينية للانقلاب بقوله (والله ما تحركنا إلا بدافع من ديننا وشرعنا الذي نؤمن به)، وهرول الناطق الرسمي باسم حزب النور "نادر بكار" للقول (إذا فشلت 30 يونيو فإن الإخوان سيصبحون وحشاً كبيراً لا يملك أحد توقيفه)، كذلك أصدر برهامي الفتاوي ضد معتصمي رابعة والمطالبين بعودة الرئيس المنتخب، وصولا للانتخابات الرئاسية المصرية في 2018م، والتي لعب فيها حزب النور دوراً كبيراً في الدعوة لإعادة انتخاب السيسي، طاف فيها الحزب أنحاء مصر.
وباستعراض ما سبق يتضح أن "السلفية البرهامية" التي تم استنباتها في البيئة المصرية هي ذاتها سلفية آل سعود بعد تحريفها وتطوير أساليبها، واللذين عملا لتثبيت أركان النظم المستبدة ضد حركات الإصلاح والتغيير، عن طريق استغلال الدين، فسلوك السلفية البرهامية الظاهر والخفي يشير إلى عملها كأحد أذرع جهاز الأمن المصري، في الحفاظ على النظام العسكري، وتثبيت دعائمه ضد أي معارض، وبقاء الولاء له والعمل على عودته حتى بعد سقوطه الظاهري.
ولهذا أكرر دعوتي لأبناء الحركة الإسلامية للتفريق بين المنهج العلمي والتطبيق العملي، فليس كل من أعلن راية السلفية صادق في دعوته، فدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وسلفيته بريئة من هذه السلفيات التي تم تطويرها القسري في أروقة أجهزة الأمن والمخابرات.
أضف تعليقك