بقلم: مصطفى البدري
منذ أن كتبت "دعوة لمشاهدة مسلسل أرطغرل" والرسائل والتعليقات تأتيني من كل حدب وصوب، بين مؤيد ومعارض، ولم يخلُ جانب المؤيدين من مبالغات وصلت حدَّ الغلوِّ أحيانا، كما كثرت التعديات والتجاوزات من جانب المعارضين، بيد أن كثيرا من المستنكرين المتهكمين كانوا بلا حُجَّةٍ أو برهان، سوى أنهم وجدوا أباءهم السلفيين على أمّةٍ وهم على آثارهم مقتدون!! رغم أن أصول المذهب السلفي تقوم أساسا على الإتباع بالحجة والدليل وليس على التقليد والترديد[1].
ومن مبالغات المؤيدين لمسألة الثناء على المسلسل خصوصا والاستفادة من الأعمال الدرامية عموما، أن صاروا يطلبون مني الكتابة عن عدد آخر من المسلسلات التي تُذاع حاليا، فتكون المفاجأة بالنسبة لهم أن أخبرهم بعدم متابعتي لأي مسلسل أصلا، وأن مسلسل أرطغرل له عندي قصة خاصة دفعتني لمتابعته، وقد ذكرتها في المقال المشار إليه آنفا، وزاد على ذلك أن المسلسل يدور حول حقبة زمنية شبيهة في أحداثها بما تمر به أمة الإسلام حاليا، حيث الهجمة التتارية من الشرق والصليبية من الغرب، مما أدى لسقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في أيدي التتار (656هـ - 1258م)، ورغم بقاء دويلات صغيرة متناثرة داخل بوتقة العالم الإسلامي.. إلا أن تنازعهم وتناحرهم أذهب ريحهم وأظهر فشلهم وعجزهم، وظلت الحالة هكذا أكثر من قرنين من الزمان، حتى ظهرت بوادر التوحد تحت مظلة الدولة العثمانية التي أسسها عثمان بن أرطغرل، فرأيت أن شهرة المسلسل قد تفيد في دراسة أسباب ضعف المسلمين في هذه المرحلة وعوامل قوة واتساع دولة العثمانيين بعد ذلك.
في حين أن بعض الأفاضل المحترمين قد أصر على رأيه في حرمة مشاهدة المسلسلات لما في ذلك من الترقيق والتهوين لشأن بعض المحرمات مثل اعتياد النظر إلى النساء المتبرجات، فضلا عن المشاهد غير الأخلاقية التي لا يكاد يخلو منها عمل درامي، مرورا بالأخطاء التاريخية التي وقع فيها صناع المسلسل، وصولا إلى بعض البدع والخرافات التي تنتشر في المسلسلات التركية بسبب اعتماد التصوف كمذهب ديني عند عامة الأتراك، وهؤلاء في الحقيقة لم أكن أحب أن أناقشهم أو أرد على الإشكالات التي طرحوها، وذلك مني لسببين: الأول أنني لا أختلف معهم كثيرا في شأن ما ذكروه من أسباب الجنوح للتحريم، والمسألة عندي موازنة بين إيجابيات وسلبيات لا أكثر. الثاني أنني لا أحب لشباب هذه الأمة أن تكون الأفلام والمسلسلات شغلَه الشاغل أو حتى أحد أولوياته، ولذلك حرصت على نشر المعاني الطيبة الموجودة في المسلسل بدلا من مناقشة إخواني الذين رأوا حرمة مشاهدته، وهذا قد ظهر في مقالي "مشاهداتي للجزء الثاني من مسلسل أرطغرل".
ثم كانت المفاجأة الكبرى.. أن دخل مولانا البرهامي بنفسه حلبة الصراع، وأفتى بأن مسلسل أرطغرل يشكِّل خطرا عظيما على الأمة الإسلامية!! جاء ذلك بعدما تزعم مولانا وحزبه أمر الدعوة لدعم وتأييد السيسي في مسرحية الانتخابات الأخيرة في مصر، وهو ما أثار شباب الحركة الإسلامية واستفزهم على مولانا البرهامي الذي تطور أمر السيسي عنده من كونه كالميتة التي يأكلها المضطر، حتى أصبح هو الأصل الواجب اتباعه، فكان كمن أفتى بإباحة أكل لحم الكلب لإنقاذ النفس من التهلكة، ثم لما رآه وهو يُشوى على النار أعجبه منظره فصار يمنع أتباعه من البحث عن الطيبات التي أحلها الله ويأمرهم بالالتفاف حول ما كان بالأمس ميتة، وأصبح يطلب من أتباعه أن يتفننوا في صنع الهامبرجر والبوفتيك والسجق، رغم أن الله عز وجل قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي أن شرط الحِلِّ ورفع الجُناح، هو عدم الاشتهاء والابتغاء للمحرم، وعدم الأكل فوق ما يقيم به حياته.
لكن يبدو أن الحقد الذي يحمله برهامي ضد الحركة الإسلامية كلها (بداية من السلفية غير التابعة للسعودية مرورا بالإخوان والتبليغ وصولا للجهاديين).. هو ما أعمى بصره قبل بصيرته، فوصل إلى الانتكاسة التي هو غارق فيها حاليا!! كما يبدو أن مسلسل أرطغرل يحوي من المعاني الطيبة التي يرفضها برهامي وحزبه ما استفزهم لدرجة أن يصدر فتواه التي دفعت الشباب لإعادة فتح ملفاته وإبرازها على الساحة مرة أخرى. ولعل تكرار مشاهد الانقلابات داخل المسلسل[2]، مع تأكيد معنى مقاومتها وعدم الاستسلام لها ورفض اعتبارها أمرا واقعا.. كان له أكبر الأثر في استنهاض الهمة البرهامية بحيث يظهر وقد أعطى الشرعية لإراقة دماء الشباب المسلم الطاهر في ذات الوقت الذي يفتي فيه بنجاسة دم البعوضة وعظم خطرها مهما صغر حجمها أو ضعف أثرها!!
لم يستطع برهامي أن يخفي غيظه من التقدم التركي في ظل الحكم الأردوغاني المحسوب على الحركة الإسلامية المناوئة للفكر والمنهج السعودي، فمن ضمن ما ذكره من أوجه خطورة المسلسل أنه (يعظم من شأن القومية التركية، تمهيدا لإظهارها كقيادة للعالم الإسلامي)، وقد أجادت الكاتبة إحسان الفقيه في الجواب عن هذا الإشكال في مقال لها بعنوان: "أرطغرل وبرهامي.. وجها لوجه" حيث أكدت أن برهامي بهذا يؤصل للتفريق بين المسلمين بوازع العرق والجنس، في حين أن الإسلام قد جاء بوحدة أتباعه تحت راية العقيدة مهما اختلفت أعراقهم وجنسياتهم.
لن أنشغل كثيرا بأمر الدفاع عن المسلسل، فالموضوع عندي ليس متعلقا بذاته، على قدر تعلقه بالمصالح التي قد نحصلها منه أو من غيره، لكن تحضرني هنا بعض آثار عن سفيان الثوري[3] -رحمه الله ورضي عنه- تتعلق بأثر كثرة الاختلاط بالظَّلَمة وأمراء السوء، منها: "النظر إلى وجه الظالم خطيئة"، "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله"، "لئن تجعل في عنقك مخلاة فتسأل على الأبواب خير من أن تدخل في شيء من أمر هؤلاء الأمراء" وقبل ذلك قد قال ربنا جل وعلا: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَيُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الْحَوْضَ»[4] وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِبَاطِلِه حَقًّا، فَقَد بَرِئَ مِنْ ذِمّةِ الله وَذِمَّةِ رَسُولِه"[5]
إلى غير ذلك من الأدلة التي ترشدنا إلى أن الشيخ الدكتور عالم عصره وفقيه زمانه ياسر برهامي سيظل مخذولا غير موفق حتى ينزع أو يتوب مما افتراه على معتصمي ميدان رابعة العدوية، ومن مناصرته وتأييده للمجرم الخائن القاتل عبد الفتاح السيسي. ففي سلسلة الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ الله حَتَّى يَنْزِع»، وفي الصحيحة أيضًا: «وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتُتِن، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنَ السُّلْطَانِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ الله بُعْدًا»
والله من وراء القصد.
الهوامش:
[1] هذا ما تقتضيه الأصول السلفية المنصوصة، أما الواقع فقد انعكس فيه الحال، وغلب فيهم التقليد الأعمى والترديد الببغائي.
[2] في الجزء الأول للمسلسل كان انقلاب كورت أوغلو على سليمان شاه، وفي الجزء الثالث انقلاب أورال علَى علِي يار، وفي الجزء الرابع انقلاب بهادير على أصليهان.
[3] ذكرت هذه الآثار خصيصا لأن الشيخ أحمد فريد زميل برهامي في مناصرة السيسي قد ذكرها في كتابه (من أعلام السلف).
[4] رواه أحمد في المسند وقال فريق المحققين: حديث صحيح، كما رواه النسائي والترمذي وذكره الألباني في صحيح السنن.
[5] انظر صحيح الجامع (ح / 6048) والسلسلة الصحيحة (ح / 1020) للشيخ الألباني رحمه الله.
أضف تعليقك