ما إن انتهيت من مطالعة «بوست» لأحد الإخوة يقول فيه: «أدعو الصائمين للدعاء على فلان وفلان -يقصد الأخوين مسئولى الجماعة فى لندن- ساعة الإفطار فإنها ساعة إجابة» -حتى صدمنى «بوست آخر» يقول صاحبه تعليقًا على موت «كوبيك» -أحد أبطال مسلسل (أرطغرل): «قُتل كوبيك، عقبال فلان وفلان» -يقصد الأخوين نفسهما.
قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن هذا لا يمتُّ للأخوة بصلة، ولا أظن أن هذين الكاتبين ينتميان للجماعة، ولو كانا منها بالفعل ما نطقا بما نطقا، ولو أقسم أحدهما أنه عضو بها لقلت له: أنت ومن جعلك عضوًا تحتاجان إلى تأهيل تربوى ونفسى، ولا مكان لكم فى الإخوان حتى تستقيم ألسنتكم، ولن تستقيم ألسنتكم حتى يستقيم إيمانكم، وحتى تدركوا أن المسلم الحقيقى كما قال علماؤنا: «من يحب أخاه بقدر ما عنده من الدين، ويبغضه بقدر ما عنده من الفسوق والعصيان»، ونشهد أن الأخوين المطعونين لم يأتيا فسقًا ولا عصيانًا..
ومن حيث المبدأ؛ فلا أحد فوق النقد، بل كلٌ يُؤخذ من كلامه ويُرد إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وديننا لا يعرف القداسة لبشر. بل أزيد أننى أختلف فى بعض الأمور الإدارية مع الإخوة المسئولين، لكن هذا الخلاف لا يعمينى عن الحق، ولا يصرفنى عن العدل، ولا يجعلنى أضع الفضلاء المجتهدين -ولو أخطئوا- مع الظلمة المجرمين محاربى الدين؛ فإن فعلت فإن فى دينى ثلمة، ذلك أن الأمر بيِّن لا لبس فيه ولا غموض؛ فـ«المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، كما لم نر فى الشرع جواز الدعاء على المسلم، وإن جوّز البعض بغضه فإنما يكون هذا للعاصى منهم، بل زاد العلماء: إنما البغض يكون للمعصية والفسق وليس لذاته..
ولو فقه الأخوان المتقوِّلان «صاحبا البوستين» لعلما أنهما أجرما فى حق نفسهما، وفى حق الدعوة، وقد أعطيا الفرصة لأعداء المسلمين للطمع فيهم، والاستهانة بهم، والجرأة عليهم؛ ففى التنازع الفشل، وفى الفرقة العذاب (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، والأولى بالمسلم أن يوصى أخاه بالحق والصبر، لا أن يقنطه ويستهزئ به، ويحرّض عليه العدو، ويستعدى عليه الصديق. قال النبى -صلى الله عليه وسلم- عن أنس-: «أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لغائبهم، وأن تجيب تائبهم»، وقد نهى عن مثل ما فعل الأخوان، من السب والشتم والتحقير فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد إخوانًا..».
والإخوان المسلمون كما عرفتهم -والكلام للأخوين المتقوِّلين- يلتزمون بالقاعدة الذهبية؛ قاعدة صاحب المنار -رحمه الله-: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه»، ويعملون بقاعدة الإمام الشهيد: «نحن لا نجرح شخصًا ولا هيئة»، ولا يشذون عما قاله فى الأخوة؛ حيث عرفها بقوله: «أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة؛ والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها. الأخوة أخوة الإيمان. والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار»..
ولا أظن هذين الأخوين قد انزلقا إلى هذا المنحدر إلا لما ولوا وجوههم قبل الساحة السياسية، ناسين ساحة الدين والشرع، وساحة السيرة وتاريخ السلف الكريم؛ إذ لو عوتب المنهزمون على أسباب هزيمتهم التى لم يكن لهم يدٌ فيها؛ لعوتب المعصوم على هزيمته فى أحد -وهو برىء منها- ولعوتب عليها فى حنين إذ اغتر المسلمون بقوتهم، ولعوتب خالد على انسحاب يوم مؤتة، وقد كان كرارًا ولم يكن فرارًا، وكان حلاً عسكرىًا عبقرىًا لعدم تكافؤ الفريقين.
وما انزلقا إلا لما غفلا عن فقه الخلاف؛ فإن الغافل عن هذا الفقه لا يدرك أدنى الوادى من أعلاه، همه أن يتهم خصمه، ويهيل عليه التراب، لا ينتصر لحق، ولا يعترف بخطأ، ويظن أنه على شىء؛ ولأجل ذلك قد يبغى ويأثم، ويسىء الظن، ويغتاب ويبهت، ويخوض مع الخائضين. إن من أدب الاختلاف أن يعتقد المسلم أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، وأن رأى غيره خطأ يحتمل الصواب (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24]، حتى لو تأكد أن خصمه على خطأ فلتكن النصيحة بآدابها وشروطها: فى السر، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبأرق أسلوب، ولا تنسوا الفضل بينكم.
إن مثل هذا العمل الذى قام به هذان الأخوان -سامحهما الله- يقوِّض أركان الصف المسلم، القائم على الحب والعاطفة «مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر»، ويزرع العداوة والشحناء بين المسلمين، ويجعل القلوب واجفة، والعقول زائغة، ولا أنفع للصف المسلم من الاعتصام بحبل الله، والتعاون على البر والتقوى، ونبذ الفرقة، وتخلية القلوب من مضارها. سُئل رسول الله: أى الناس أفضل؟ قال كل مخموم القلب صدوق اللسان، قيل: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقى النقى، لا إثم فيه ولا بغى، ولا غل ولا حسد».
أضف تعليقك