مقال بقلم: عامر شماخ
كلمت مرّت ذكرى استشهاد المجاهد الفلسطينى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي (17 أبريل 2004) هاجت مشاعري، وحمدت الله أن قيض لأمتنا أمثال هذا الرجل، الذي عشت سيرته في كتاب صدر لي بعنوان (مذكرات الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسى) نشرته إحدى دور النشر المعروفة عقيب اغتياله ، وترجم بعدها إلى ثلاث لغات..
وأحسب أن الرجل مختار؛ مختار من الله كى يستبشر بنعمة منه وفضل، ومختار من الصهاينة الملاعين كي يستريحوا – في ظنهم – منه، ولا يعلم الأنذال أنَّ تلك كانت أمنيته التى كان يدندن بها قبل تفجيره بساعات بقوله: «أن تدخلنى ربى الجنة.. هذا أقصى ما أتمنى.. ياذا المنة، يا رب»، ولا يعلمون أيضًا أنَّ دماءه التى فجرتها صواريخهم إنما أنبتت آلافًا من أمثاله، على أرض فلسطين وعلى غيرها من بلاد المسلمين.
لقد غدروا به لحظة ركوب سيارته برفقة مرافقين اثنين من إخوانه؛ فأطاح بجسده الطاهر الذي عُذب في سبيل الله كثيرًا صاروخان أطلقا من طائرة (أباتشى) أمريكية الصنع؛ فذهب إلى ربه فى عرس مهيب تحفه الملائكة منضمًا إلى قافلة الشهداء المباركة.
قضى الرنتيسى أعوامه السبعة والخمسين فى معاناة وهموم لم تنقطع يومًا، وقد جاء ميلاده قبيل النكبة (23/10/1947)؛ لجأت أسرته بعدها، وهو ابن ستة أشهر، إلى قطاع غزة، واستقرت فى مخيم خان يونس للاجئين، وكان العبء ثقيلا على الأب؛ إذ كان عبد العزيز هو الابن الثالث عشر لوالديه: تسعة إخوة وثلاث أخوات؛ فيتلقى تعليمه بمدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين. وقد اضطرته تلك الظروف الصعبة إلى العمل وهو ابن ست سنين.
ويتفوق الفتى المكافح فى دراسته، ويتوجه إلى الإسكندرية عام 1965 بعد حصوله على الثانوية العامة ليلتحق بكلية الطب بجامعتها، وينهى أيضًا دراسته الجامعية بتفوق.. لينطلق بعدها إلى حياته المهنية؛ فيعمل فى مستشفى خان يونس، ثم يعود إلى الإسكندرية ثانية ليحصل على ماجستير طب الأطفال، ليشغل بعدها عدة مواقع فى العمل العام.
ومنذ العام 1982 بدأت رحلته الجهادية ضد المحتل، وبدأ معها اعتقاله، لينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين ويصبح أحد قادتها فى القطاع، وأحد مؤسسى حركة حماس عام 1987؛ فكان أول من اعتقل من قادة الحركة بعد اشتعال الانتفاضة (15/1/1988)، ثم أفرج عنه، فأعيد اعتقاله (4/3/1988) لمدة عامين ونصف العام، ليعتقل من جديد فى (14/12/1990) لمدة عام كامل.
وفى (17/12/1992) أبعد مع 416 من كوادر حماس والجهاد والإسلامى إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، وكان هو المتحدث الرسمى باسم المبعدين الذين نجحوا فى كسر قرار الإبعاد والعودة إلى الوطن؛ ليعتقله الصهاينة من جديد ويقضى فى السجن ثلاث سنين ونصف السنة ليفرج عنه فى (21/4/1997)، ثم يعتقل على يد السلطة الفلسطينية -بإيعاز من المحتل- فى (10/4/1998) ويفرج عنه بعد 15 شهرًا، ثم أعيد للاعتقال بعدها -على يد السلطة المشئومة كذلك- ثلاث مرات ليفرج عنه بعد أن خاض إضرابًا عن الطعام، وبعد أن قصف المعتقل بطائرات العدو وهو فى غرفة مغلقة فى السجن المركزى؛ لينهى بذلك ما مجموعه 27 شهرًا فى سجون السلطة، التى حاولت بعد ذلك اعتقاله مرتين ولكنها فشلت لالتفاف الجماهير حوله..
وهكذا سيرة الرجل، لا تجد فيها إلا جهادًا ودعوة، وهمومًا ومعاناة، وضغوطًا وممارسات غير إنسانية.. فهل صرفه ذلك عن دينه شيئًا؟ اللهم لا؛ فقد أتم حفظ كتاب الله فى معتقله الانفرادى، وكان يؤمن إيمانًا لا يتزحزح أن فلسطين لن تتحرر إلا بالجهاد فى سبيل الله، ولقد استطاع بفضل اليقين والثقة فى الله، أن يغير هو وإخوانه وجه فلسطين؛ حتى صارت أرضها نارًا تحت أقدام الصهاينة؛ فأينما ولوا قُتلوا؛ فصار حلمهم كابوسًا، وانعدم أمنهم، وأدركوا أن ما فعلوه بفلسطين إنما هو سرقة واحتيال..
وإنه رغم الدماء والأشلاء والمعاناة التى أحاطت بالدكتور الرنتيسى فى حياته وعند موته، إلا أن له وجهًا آخر شاعريًا عاطفيًا رقراقًا، تمثل فى قصائد عدة خلفها، عالجت موضوعات الشعر المعتادة، فهو من أنشأ قصيدة «قم للوطن» التى جاء فى مطلعها:
قم للوطن وانثر دماك له ثمن .. واخلع فديتك كل أسباب الوهن
فإذا قتلت فلست أنت بميت .. فانعم بعيش لا يبيد مع الزمن
وله قصيدة غنائية يخاطب فيها ذاته أسماها «حديث النفس»، وقد صور مشاعره وعواطفه فى قصيدة أخرى كتبها فى معتقله عام 1996، حملت أشواقه إلى «محبوبته» التى تاق لرؤيتها بعد غياب، قال فى مطلعها: رأيت النور يضحك فى ضحاها.. ويسطع فى دجى الدنيا سناها»، وختمها بقوله:
« ولولا ثقلة القيد امتطينا .. لأسمى كل صعب كى نراها »
رحم الله الدكتور الرنتيسى، وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وحسن أولئك رفيقًا.
أضف تعليقك