بقلم: حسن أبو هنية
تشكل الحالة السورية معرضا كونيا لما آلت إليه أحوال العالم من فوضى وعبث وزيف، حيث أصبح الاستعراض متحكما في كل شيء من حولنا، بدءا من تصور الشخص عن نفسه وانتهاء بتصور الواقع نفسه.
وكشفت تداعيات الهجوم الكيماوي المفترض على مدينة دوما السورية التابعة لريف دمشق العاصمة، الذي أودى بحياة ما يقارب 78 مدنيا وجرح مئات آخرين، في السابع من نيسان/ أبريل 2018، عن صيغة عالم ما بعد الوقائع وطبيعة مجتمع الاستعراض الدولي، وبؤس حفلات التفاهة الإنسانية.
فقد أفضت حفلات الشغب الدولية إلى توجيه ضربات محدودة إلى مواقع سورية دون خسائر بشرية، مع التشديد على أهدافها المحددة بتدمير قدرات النظام الكيماوية، والتأكيد على عدم استهداف النظام وتقويضه، وأن هدف التحالف يقتصر على حرب "إرهاب" تنظيم "الدولة الإسلامية".
لا جدال أن سوريا تحولت إلى مركز لاختبار القوة وساحة للصراع الدولي والإقليمي حيث تختبر فيه الأطراف بعضها لتحديد مكانتها ودورها ونفوذها، مستندة في تدخلاتها إلى ترسانة تأويلية فائقة للقانون الدولي ومواضعات حالة الاستثناء تحت ذريعة حرب "الإرهاب"، وهو مفهوم سياسي ذاتي غير موضوعي ويتجاوز القانوني.
ولذلك ندد جيورجيو أغامبين بحالة الطوارئ الدائمة والمستمرة التي تؤدي إليها مكافحة الإرهاب في الدول المعاصرة، فالسلطة السيادية حسب أغامبين، تؤسس نفسها من خلال إنتاج نظام سياسي يقوم على استبعاد الحياة البشرية العارية.
ويتحقق هذا من خلال سن الاستثناء الذي يتم فيه تعليق القانون، وسحبه من الكائن البشري الذي جرد من الوضع القانوني وتحول بالنسبة للسلطة السيادية إلى الحياة العارية دون حقوق.
في هذا السياق، قامت حروب الوكالة في سوريا بحجة حرب "الإرهاب"، وكان النظام السوري قد خاض حربه الداخلية منذ بداية الانتفاضة الاحتجاجية السلمية باسم مكافحة "الإرهاب"، ذلك أن الهول بالتعريف الحداثي المعاصر بات يتمثل في أي عمل يتخطى الحداثة العسكرية، باستخدام وسائل تنتمي إلى حالة من "البربرية" كنقيض للوضعية "الحضارية"، التي تتجسد بتنفيذ العمل "الانتحاري" واستخدام السلاح "الكيماوي"، باعتبارهما روح "الإرهاب".
وبذلك فإن قتل مئات الآلاف من المدنيين السوريين بالأسلحة التقليدية على اختلاف أنواعها لا يخلف أثرا أو ندوبا على الكرامة الإنسانية عموما، بل يغدو القتل بطولة وشجاعة في حالة الإنسان المستباح الذي يتجسد في حالة "الإرهابي" المفترض خصوصا.
عندما قام النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين باجتياح الغوطة الشرقية وقتل بضعة آلاف وتشريد وتهجير عشرات الآلاف بأسلحة تقليدية تحت ذريعة حرب "الإرهاب"، اكتفى مجتمع الاستعراض الدولي بالتنديد والإشارة إلى تجنب المدنيين.
ومع ورود تقارير باستخدام السلاح "الكيماوي" وقتل بضعة مئات، انقلبت الصورة وحضرت "الأهوال"، وتصاعدت التصريحات والتغريدات.
حيث قال الرئيس الأمريكي في تغريدة نشرها عبر صفحته على موقع "تويتر": "استعدي يا روسيا لتلقي صواريخ رائعة وجديدة وذكية ويجب عليك أن تتوقفي عن مشاركة الحيوان الذي يقتل شعبه ويستمتع بذلك"، وأضاف "روسيا تتعاون مع حيوان يقتل شعبه بالغاز".
عقب تغريدات ترامب الانفعالية التي أوحت بتوجيه ضربة قوية للنظام السوري وحلفائه، وتنامي الحديث الإعلامي عن سيناريوهات يوم "القيامة"، تكشفت مرة أخرى الطبيعة الواقعية البراغماتية للمؤسسة العسكرية الأمريكية، التي عملت على تجاوز تغريدات ترامب.
وبدأت تبحث عن شركاء في توجيه ضرية عسكرية محدودة، وسرعان ما استجابت بريطانيا وفرنسا، لإضفاء نوع من الشرعية، واقتصرت الأهداف على أهداف تتعلق بـ"الأسلحة الكيماوية".
في هذا السياق، كشفت مسارات التصعيد الدولي عن حقيقة مجتمع الاستعراض الدولي في الحقبة الرأسمالية، حيث يمكن تعميم تحليل جي ديبور في كتابه "مجتمع الاستعراض" من المحلي إلى العالمي، في قراءة مجتمع الاستعراض ضرورية جدا، لأنها تكشف عن حقيقة الصيغة الحالية للسلطة وآلية إعادة إنتاجها في كل جانب من جوانب الحياة العامة.
إذ تسيطر السلعة من خلال المشهد- الاستعراض الذي يصر على أن يقزم وجود كل البشر المنتجين إلى متفرجين سلبيين فقط، خاضعين بهدوء للسلطة السائدة ولعلاقات الإنتاج السائدة، والعالم المقلوب رأساً على عقب، يكون ما هو حقيقي لحظة من لحظات ما هو زائف.
ونفهم من ذلك أن الاستعراض يرتبط بما هو زائف، كما نفهم أيضاً أن الواقع أو واقعية الواقع تختفي، ويعزو جان بودريار في كتابه "المصطنع والاصطناع" الذي يقتفي أثر ديبور اختفاء الواقع إلى حقيقة غياب العلاقة بني الدال والمدلول.
وهذا ما يحصل من جراء مضاعفة فعالية الإعلام الذي يحول الحياة الاجتماعية والواقع إلى صورة؛ فما يقدمه الإعلام ليس هو الواقع كما هو، ولا هو صورة عنه، بل هو صورة ولَّدها الإعلام عن صورة أخرى هي بدورها مولَّدة منه. حين يحدث ذلك، نصبح أمام عالم من الصور التي يتولد بعضها عن بعض، فتغيب الدلالة ويغيب المعنى، ولا يتبقى سوى الاستعراض.
في مجتمع الاستعراض الدولي نكتفي بالفرجة، حيث تغيب الوقائع وتحضر الصور، ولا معنى لأي شيء وما ثمة حقيقة، إذ يكشف المشهد عقب الضربات الجوية على مواقع سورية على خلفية استخدام أسلحة كيماوية عن صور وزموز ودلالات تتطلب "خيميائي" لفك شيفرتها ورموزها.
إذ أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أن الضربات التي نفذتها الولايات المتحدة مع فرنسا وبريطانيا، في 14 نيسان/ إبريل 2018، استهدفت عددا من القواعد والمقرات العسكرية في العاصمة دمشق ومحيطها.
وأوضح مسؤولون أميركيون أنه تم إطلاق ما بين 100 إلى 120 صاروخا على المواقع العسكرية السورية، وكشف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال جوزيف دانفورد، أن الضربة الأولى استهدفت مركزا للبحوث العلمية في دمشق (معهد البحوث العلمية في برزة)، تشارك في تطوير وإنتاج الأسلحة الكيماوية.
وأضاف أن الضربة الثانية استهدفت منشأة لتخزين الأسلحة الكيماوية غربي حمص، بينما كانت الضربة الثالثة لمرفق لتخزين المعدات الكيماوية وأحد مراكز القيادة الهامة.
وتابع دانفورد: "تم تدمير البنية التحتية التي ستساهم في تراجع استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية وسوف تفقده قدرته على تطوير هذه الأسلحة".
ووصف الجنرال دانفورد العملية بأنها "ضربات لمرة واحدة"، وتبدلت تغريدات ترامب عقب الضربة وبدت عادية، حيث قال: "الضربة نفذت بإتقان الليلة الماضية... وأشكر فرنسا وبريطانيا على حكمتهما وقوة جيشيهما الممتازين اللذين ما كنا لنحصل على نتيجة أفضل بمعزل عن دورهما... المهمة أنجزت".
في الوقت الذي احتفت فيه أمريكا وفرنسا وبريطانيا بإنجازها المهمة، أكدت وزارة الدفاع الروسية أن الدفاعات الجوية السورية أسقطت 71 صاروخا من أصل 103.
أما البقية فدمرت المناطق المدمرة أصلا، ولم تصب كافة المطارات السورية المستهدفة بأضرار تذكر، وأشار البيان إلى أن الدفاعات الجوية السورية التي تصدت للهجوم الثلاثي هي منظومات إس-125 وإس-200 و"بوك" و"كفادرات"، التي صنعت في الاتحاد السوفيتي قبل أكثر من 30 سنة.
أما النظام السوري فقد أكد على ثيمته المفضلة أن الضربات هي دعم لـ"الإرهاب" و"الإرهابيين"، وأنها ستواصل مهمتها بحرب "الإرهاب"، وتعنى بالانتصار على "العدوان الثلاثي"، وهي تسمية تحيل إلى استدعاء صورة الرئيس عبد الناصر، الذي تجسد بصورته الرئيس السوري بشار الأسد بلقطة مصورة وهو يحمل حقيبة كدلالة على الانتصار وكسر الاستعمار.
لم يكن الهجوم الكيماوي المفترض على مدينة دوما هو الأول، فبحسب المندوبة الأمريكية نيكي هايلي استخدم النظام الأسلحة الكيماوية أكثر من 50 مرة، لكن الرد هو الثاني بعد الهجوم الكيماوي على منطقة خان شيخون بريف إدلب في 4 نيسان/ إبريل 2017 الذي أسفر عن مقتل 100 شخص وإصابة400 آخرين.
واتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حكومة الرئيس السوري بشار الأسد "بتجاوز الخط الأحمر"، وأصدر أوامره للقوات الأمريكية في 7 نيسان/ إبريل 2017 بإطلاق 59 صاروخا من طراز توماهوك من سفينتين في البحر المتوسط على قاعدة الشعيرات الجوية في محافظة حمص وسط سوريا.
إن الرد الأمريكي على الهجوم الكيماوي يهدف إلى إعادة بناء الثقة في القوة الأمريكية التي تضررت حسب ترامب مع إدارة أوباما الذي أظهر أمريكا ضعيفة وعاجزة عقب تصريحاته بأن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي يمثل "خطا أحمرَ" التي أطلقها في آب/ أغسطس 2012.
وقام النظام السوري حينها بتجاوز ذلك الخط مرات عديدة كما حدث في آذار/مارس 2013 في خان العسل في حلب عندما استخدم النظام غاز السارين وتسبب بسقوط 20 قتيلاً و80 مصاباً، وبلغت ذروتها في 21 آب/أغسطس 2013 عندما استخدمت قوات النظام غاز السارين في قصفها للغوطة الشرقية ما أوقع 1500 قتيل وإصابة أكثر من 5000 شخص معظمهم من الأطفال والنساء.
على الرغم من ادعاءات ترامب بمغايرة نهج أوباما، إلا أنه يتبع خطاه في معظم المسائل الاستراتيجية، وكلاهما يتبع المؤسسة العسكرية في قضايا الأمن القومي.
فعقب المجزرة الكيماوية الأشهر في سوريا أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في 1 أيلول/ سبتمبر 2013 عن قراره توجيه ضربة عسكريّة إلى النظام شرط تصديق الكونغرس.
وتراجع عن إعلانه عندما أعلنت روسيا مبادرة تقضي بوضع الأسلحة الكيماوية السوريّة تحت الرقابة الدولية وبسحبها وتدميرها في مرحلة لاحقة وقد صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 بالإجماع في 27 أيلول/ سبتمبر 2013 على خلفية التسوية الكيماوية التي تم التوصل إليها في جنيف يوم 14 أيلول/ سبتمبر 2013 بين روسيا والولايات المتحدة.
تشير تغريدات الرئيس الأمريكي ترامب إلى رجل انفعالي لا خبرة له بمؤسسات الدولة العميقة، فببساطة ينتقل من قول لآخر، ولذلك فقد كانت أولى ردود أفعاله أن الضربة الكيميائية على خان شيخون قد غيرت موقفه من الأسد والذي كان قد عبر سابقا عن قبوله كشريك في "حرب الإرهاب".
وكان قد صرح من خلال "تويتر" عام 2013 عندما كان أوباما يفكر في ضرب سوريا بالقول: مرة أخرى أقول لقائدنا الغبي، لا تهاجم سوريا، وإن فعلت فإن كثيرا من الأشياء السيئة ستحصل، ومن تلك المعركة لا تكسب أمريكا شيئا" وبعد فوزه صرح مع أركان إدارته أن إزاحة الأسد ليست أولوية أمريكية.
خلاصة القول إن الضربات الأمريكية بمشاركة رمزية بريطانية وفرنسية على مواقع تابعة للنظام السوري، لن تغير شيئا في ميزان القوى في سوريا، ففي مجتمع الاستعراض الدولي تتضامن السلطات السيادية لمنح الجمهور الفرجة، وتتحول الوقائع إلى صور يمكن عبرها ترويج الكذب باعتباره حقيقة، والهزيمة إلى نصر، والقتل إلى بطولة في سلسلة لا تنهي.
فحدث الهجمات مكن ترامب وماكرون وماي من تجاوز أزماتهما الداخلية، وإظهار قدراتهم العسكرية الصاروخية الدقيقة الفائقة، ودشنت أمريكا وبريطانيا وفرنسا مسارات النفوذ والهيمنة والدور السياسي، وبدت كحامية للإنسانية من "هول" السلاح الكيماوي.
وخرجت روسيا بتأكيد يدها العليا في سوريا، وروجت لكفاءة أنظمتها الدفاعية، وكفاءة صناعاتها العسكرية، وأكدت إيران على حضورها وقدرتها على المواجهة الميدانية.
وأصبح الأسد عبد الناصر، الذي أفشل العدوان وكسب الرهان، لكن كل ذلك لا صلة له بالحقيقة، فالمسألة لا تعدو مجتمع الاستعراض، فمن يجزم بقول الصدق، ولاشيء في سوريا غير الكذب بمنطق حسابات باردة يخضع لمبدأ الكلفة/ المنفعة، بعيدا عن قيمة الإنسانية المهدورة.
أضف تعليقك