بقلم: محمد طلبة رضوان
عرفته في بوابة الوفد، يومها كان اسمه على "ترويسة" البوابة الوليدة بجوار اسم الأستاذ الكبير عادل القاضي، كلاهما كان رئيسا لتحرير البوابة، كيف ولماذا؟ لم أفهم، (المركب اللي عليها ريسين تغرق)، هكذا يقول المثل المصري، وفي الصحافة المصرية تحديدا، لا توجد هذه الروح، توقعت صداما قريبا، قدمني له القاضي بوصفي رئيس قسم الثقافة، لم نكن قد اتفقنا على شيء بعد، لكن الأستاذ عادل القاضي قرر، سلم علي عادل صبري كأننا أصدقاء، ووجدتني أمام مكتب وجهاز كمبيوتر ومحررة شاطرة تعمل معي ومطلوب شغل فورا!
العجلة دارت بسرعة البرق، الموقع قفز إلى المركز الخامس عشر في 3 شهور، كنت قد تعاملت مع القاضي لسنوات مضت في موقع إسلام أون لاين، لكنني لم أتخيل أن هناك شخصين بهذا القرب والتماهي إلى درجة أنك لا تعرف من منهما فعل ماذا، شبيهان في الاسم والصفات والمهنية والأخلاق وحب العمل وحب محرريهم وحمايتهم لهم برقبتهم، كنا بالفعل ننسى من منهما كلفنا بماذا، ومن تسلم منا الشغل، من دون ملاحظاته، ومن استدرك، ومن مرر المادة إلى النشر؟، جنون!
قامت الثورة، وتركت الوفد، ومات عادل القاضي، وانقلب السيسي على مرسي، كانت تجربة مصر العربية تخطو خطواتها الأولى قبل الانقلاب بشهور، مرت دبابات السيسي فوق جسد المهنة، فرمتها، لكن مصر العربية كان من النوافذ القليلة التي احتفظت بولائها للمهنة وحق القارئ في المعرفة، دون تأثر بحالة الاستقطاب الجنونية التي خلقها نظام ما بعد 3 يوليو، كما كان يدعوه صحفيو مصر العربية، كلموني، رحت، واشتغلت، كنت مكتئبا، ممتلئا بالحنق، والغضب، والإحساس بالاستغفال، كمن طرح منافسه على أرضية الحلبة وتركه يتلوى من الألم، فيما هو نشوان يحتفل بانتصاره، فإذا بضربة على رأسه، تطرحه من خانة الوعي، طلبوا مني أن أكون مسؤولا عن قسم الثقافة فاعتذرت وفضلت أن أكون محررا في قسم الديسك، كان الأستاذ عادل صبري هو رئيس التحرير، وحده هذه المرة، فقد مات نصفه الآخر، اقتربنا أكثر، رأيته بسيطا هادئا، لا يعرف العلاقات التعاقديّة، فالجميع أولاده، إذا أحسنوا كافأهم، وإذا أخطأوا، حسب الغزالة، لا يتهاون في حق العمل لكنه لا يتهاون أبدا في حق البشر، إذا ثبت بالتجربة أنهم بشر!
وافقت على قسم الثقافة، تحمست، عادل، ومعه حسام السيد وجلال عبد السميع، كانوا حالة مهنية وإنسانية تحرك الحجر ليقرأ ويكتب ويعمل ويشارك ويتورط، كلهم أساتذة كبار، وكلهم اليوم بين سجين، ومنفي في بلاد الله.
لم تكن مصر العربية جريدة إخوانية، لكنها صنفت كذلك بعد الانقلاب، من ليس معي إلى درجة قلع البنطلون فهو بالضرورة إخوان، لم يلتفت عادل صبري إلى هذه الترهات وحذرنا من التعامل مع أي طرف بحساسية زائدة لإثبات أي شيء أو نفي أي شيء، ركزوا في شغلكم، وأبدعوا، وتميزوا، ودعوا الناس تقرأكم وتحكم عليكم مما يقرأون لا مما يسمعون، الجورنال كبر، حاولنا أن نستخرج رخصة لجريدة ورقية، وعدونا، وأخلفوا، وافقوا ثم رفضوا، بدأت بالالتزام بمقال أسبوعي، بعد فترة توقف طويلة، شجعني، انبسط، كأني ابنه، أو كأنه عادل القاضي، سيان، مررت عليه يوما ليقرأ المقال قبل أن أنشره، سألني: من امتى؟ قلت: حراق شويه جايز ما يعجبكش، فقال: انشر واقفلها، تقفل أحسن ما اشتغل رقيب على شغلكم!
صباح يوم ما فوجئت بمقال لمرشحة حزب وطني سابقة وزوجة لواحد من أبرز رجال جمال مبارك، سألته، قال تريد أن تكتب عندنا، دون مقابل، أهلا وسهلا، مقالاتها حلوة، لها قارئ، رأي ليس عندنا، لم لا؟، أيوه يا ريس بس دي فلول، ماشي، بس المقالات حلوة!
لا أذكر لعادل صبري تجاوزا مهنيا واحدا، مجاملة، انبطاحة، معالجة منحازة بفجاجة، لا أذكر له إهانة واحدة في حق المهنة أو أهلها، حين استشرته في مغادرة القاهرة إلى اسطنبول رفض، وقال اقعد هنا أحسن حتى لو هتتسجن، يا عم مش عايز اتسجن أنا، اللي أنت رايح لهم مش أحسن من السجن بكتير، خد إجازة وارتاح شويه جايز تغير رأيك، أخذت الإجازة، ولم أغير رأيي، ولذلك لم أرتح!
الأمن اقتحم مصر العربية، قفلوها، وقبضوا على عادل صبري وسجنوه، تهمته: عدم وجود تصريح من الحي!، هذه تهمة صحفي مصري وليس صاحب محل عصير قصب، عادل صبري رئيس تحرير مصر العربية، والوفد، وواحد من مؤسسي قناة الحياة، وصحفي كبير تربى في مدرسة الليبرالية المصرية، وفد مصطفى شردي، الأب، وليس ظِل عمرو أديب، كان خبر اعتقاله وإغلاق موقع مصر العربية هو أول أخبار الولاية الجديدة للسيسي..
كثيرا ما يسألني الأصدقاء لماذا لا تعود إلى مصر بعد أن اكتشفت أنها "مش فارقة"؟
عادل صبري لم يكن معارضا من الداخل، بل "صحفي"من الداخل، مجرد صحفي شريف، قرر ألا يترك مصر وأن يظل صحفيا ولا يتحول إلى "صاجاتي"، فقررت مصر أن تغلق جريدته وتصادر أمواله وتتهمه وهو الليبرالي بالفكرة والنسب الصحفي، بأنه إخان، ثم تسجنه بتهمة ملفقة، وكوميدية، لماذا نرجع، وقد غادرت مصر نفسها، ولم يبق سوى الجنون.....؟!
أضف تعليقك