بقلم: محمد مختار الشنقيطي
"المسألة ببساطةٍ هي أن مزيداً من الديمقراطية يعني مزيداً من الإسلام". هكذا كتب -حرفياًّ- اثنان من أبرز فقهاء القانون الدستوري في أميركا اليوم، وهما نوح فيلدمان من جامعة هارفارد، ورومان مارتينيز من جامعة ييل، في دراسة لهما بعنوان: "السياسة والنص الدستوري في العراق الجديد: تجربة في الديمقراطية الإسلامية" ونشرتها (مجلة فوردهام للدراسات القانونية) عام 2006. فالتناقض الأليم السائد اليوم بين التديُّن المجتمعي والعلمانية السياسية في مجتمعاتنا ظاهرة مفتعلة، وعائق جائرٌ يجب التخلص منها لتحقيق الديمقراطية في الدول العربية والإسلامية.
فتطور الدول العربية والإسلامية طبقا لقوانينها الطبيعية الخاصة -دون قهر داخلي أو تدخل خارجي- يؤدي تلقائيا إلى تطبيق قيم الإسلام السياسية في الفضاء العام. كما أن تطبيق قيم الإسلام السياسية في الشأن العام يؤدي تلقائيا إلى توسُّع مساحة الحرية السياسية والحقوق الأساسية. فالعلاقة بين الاثنين علاقة جدلية وثيقة، وكلاهما يقود إلى الثاني في النهاية لا محالة. وهذا الحضور الإسلامي في الشأن العام لا يحتاج سلطة قهرية، بل يحتاج شعوبا حرة مؤمنة بالإسلام وبإنسانية الإنسان.
وقد تضافرت الدراسات الدستورية الصادرة في الأعوام الأخيرة في الأكاديميات الأميركية على ملاحظة التلازم بين توسع مساحة الحرية السياسية وترسُّخ مكانة الإسلام في الشأن العام. ومن ذلك ما لاحظه الدكتور داود أحمد في رسالته للدكتوراه بجامعة شيكاغو بعنوان: (ديمقراطية تحت سلطة الخالق) Democracy Under God من "جاذبية الإسلام في لحظات التحول الديمقراطي." وهو أمر يصدِّقه منْحُ الشعوب ثقتها للقوى الإسلامية الديمقراطية في جل الانتخابات التي تلت ثورات الربيع العربي، قبل أن يتعاضد الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي على وأْد تلك الثورات. ويدرك الذين يسعون إلى وأْد الثورات العربية -من الداخل والخارج- أن حربهم على حرية الشعوب حربٌ على الإسلام، وأن حربهم على الإسلام حربٌ على حرية الشعوب. وذلك بسبب التلازم بين الإسلام والكرامة السياسية في قلوب الشعوب.
حصر أسلمة الدساتير في بضع مواد تفصيلية من الدستور اختزالٌ مُخلٌّ، بل هو تشويه لقيم الإسلام بحصرها في النطاق القانوني الضيق، وتجاهلٌ لقيم الإسلام السياسية الكبرى
وقد كتب داود أحمد نفسُه دراسة مهمة بعنوان (الأسلمة الدستورية وحقوق الإنسان) مع أستاذه السابق بجامعة شيكاغو، توم جينسبرغ، وهو من كبار المتخصصين في تصميم لدساتير في العالم اليوم. ونشرت الدراسة (مجلة فرجينيا للقانون الدولي) عام 2014. وتوصل الباحثان في دراستهما إلى نتائج معبِّرة، تدل على مركزية الإسلام في الخروج من المأزق السياسي الذي تعيشه شعوبنا اليوم. ومن النتائج التي توصل إليها الباحثان بعد تتبعهما مكانة الإسلام والشريعة الإسلامية في الدساتير منذ عام 1861 إلى عام 2014 ما يلي:
أولا: أن مسار التحديث السياسي في المجتمعات المسلمة لن يسير في الاتجاه الذي سار فيه التحديث في الغرب، وأن المسلمين سيأخذون من الغرب الآليات الدستورية، لكنهم لن يأخذوا منه القيم، لأنهم حريصون على "الاستقلال الثقافي".
ثانيا: أن النص على الإسلام أكثرُ في دساتير الدول ذات الماضي الاستعماري البريطاني، منه في دساتير الدول ذات الماضي الاستعماري الفرنسي. وهذه نتيجة تعكس خشونة العلمانية الفرنسية، وطبيعة الاستعمار الفرنسي الاستبدادية.
ثالثا: أن ارتفاع عدد المسلمين بين سكان أي دولة يجعل احتمال وجود هذه المواد الإسلامية في الدساتير أكبر، لأنه مطلب شعبي. حتى الدساتير المكتوبة تحت الاحتلال الأميركي (أفغانستان والعراق) تضمنت التنصيص على منع أي قانون مناقض للإسلام.
رابعا: أن إدخال المرجعية التشريعية الإسلامية في الدساتير صاحبَه إفساح مساحة أكبر من حقوق الإنسان في العالم الإسلامي. وهذا يناقض انطباعا شائعا يربط بين الأسلمة الدستورية وتراجع الحريات السياسية والحقوق الأساسية.
خامسا: أن إدراج مواد المرجعية الإسلامية في الدستور يأتي دائما استجابة لمطلب شعبي، وهو تتم في أجواء مصالحات ومساومات سياسية خلال مراحل الانتقال السياسي، كما ظهر خلال صياغة الدستور المصري ما بعد ثورة 25 يناير 2011.
سادسا: أن الدول لا تتراجع -ولا تستطيع أن تتراجع- عن هذا التنصيص على الإسلام أو الشريعة بعد أن يصبح واقعا دستوريا. والاستثناء الوحيد كان أفغانستان بعد الغزو السوفييتي عام 1979. وهنا نجد مثالا آخر على الاستعمار الاستبدادي وأثره.
ومن آثار هذا الاستعمار الاستبدادي أن أغلب الدول ذات الغالبية المسلمة التي تنص على العلمانية في دستورها هي الدول التي كانت مستعمرات فرنسية (في غرب أفريقيا)، أو التي كانت جزءا من الهالك الاتحاد السوفييتي (في آسيا الصغرى).
لكن النتيجة الأهم لدراسة داود أحمد وتوم جينسبرغ هي أنه "في حالات كثيرة يمكن لمزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي أن يقود إلى توسُّع في تفعيل الحقوق في الدساتير، ولكنه يقود أيضا في الغالب إلى أسلمة أكبرَ للدساتير. فالاثنان غالبا ما يسيران يداً بيدٍ، ويمكن أن يكونا مترابطين بالفعل."
على أن حصر أسلمة الدساتير في بضع مواد تفصيلية من الدستور اختزالٌ مُخلٌّ، بل هو تشويه لقيم الإسلام بحصرها في النطاق القانوني الضيق، وتجاهلٌ لقيم الإسلام السياسية الكبرى، ذات الصلة بالحقوق الأساسية للناس، والعلاقة التأسيسية بين الحاكم والمحكوم، وهذه القيم أهمُّ من أي تفصيل قانوني في الشريعة مهما تكن أهميته.
أما الذي يركز على تضمين الدساتير بضع موادَّ عن مصدرية الإسلام للقوانين، فهو ينتهي باختزال الإسلام في منظومة قانونية جزئية، ثم يغفل عن الأهم وهو أمهات القيم السياسية الإسلامية. ويرجع هذا الإغفال وذلك الاختزال إلى مفهوم شائع جداًّ وخاطئ جداًّ للشريعة، يطابق بينها وبين الفقه، فيحصرها في الأحكام القانونية التفصيلية. ونحن نقصد هنا استدراكا على من يوافقوننا الرأي في سعة المساحة التي تلتقي فيها قيم الإسلام السياسية مع القيم الديمقراطية المعاصرة.
تضافرت الدراسات الدستورية الصادرة في الأعوام الأخيرة في الأكاديميات الأميركية على ملاحظة التلازم بين توسع مساحة الحرية السياسية وترسُّخ مكانة الإسلام في الشأن العام
أما جماعات السلفية الفوضوية العنيفة التي تسيء الظن بالديمقراطية وتعتبرها كفراً أو فسوقا، فهي لا تفقه القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، ولا تفهم معنى الديمقراطية على الحقيقة. ولو كانت تملك أفكارا واضحة عن الاثنين لأدركتْ ما أدركه الإصلاحيون المسلمون منذ خواتيم القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، من أن الديمقراطية هي أفضل صيغة إجرائية لتطبيق قيم الإسلام ذات الصلة ببناء السلطة وتداولها، فالديمقراطية -بهذه المعاني- تطبيقٌ للشق الدستوري من الشريعة في الزمن المعاصر.
بل إن العالم السَّلَفي ابن القيم -الذي توفي منذ ما يقارب سبعة قرون- كان أوْعى بمساحة التلاقي في القيم السياسية بين الإسلام وغيره من بعض السلفيين المعاصرين، إذ يقول في كتابه (الطرق الحكمية): "السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرِّمها، وسياسة عادلة تُخرج الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، عَلِمَها من عَلِمها، وجهِلها من جهلها". ويضيف ابن القيم متحرراً من أسْر المصطلحات: "إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات... فأيُّ طريقٍ استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له. فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسمِّيها سياسةً تبعاً لمصطلحهم، وإنما هي عدْلُ الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات". ورغم أن ابن القيم يتحدث هنا في سياق قضائي، فإن حديثه يتضمن مختلف جوانب السياسة، لذلك جاء تعبيره عاما شاملا لجميع مظاهر الشأن العام، والحكم السياسي والقضائي.
وخلاصة الأمر أن الإسلام والحرية شرطان متلازمان لخروج الشعوب العربية والإسلامية من مأزقها الحالي، وأن مزيدا من حرية الشعوب سيقود إلى مزيد من حضور الإسلام في الشأن العام، كما أن مزيدا من حضور القوى الإسلامية الإسلامية في الشأن العام سيقود إلى مزيد من الحريات السياسية. وإذا كان أستاذ أميركي من خلفية يهودية (نوح فيلدمان)، وأستاذ أميركي من خلفية مسيحية (رومان مارتينيز)، قد أدركا بوضوح "أن مزيداً من الديمقراطية يعني مزيداً من الإسلام" وأقرَّا بهذا الأمر بنزاهة، فمتى يدركه ويُقرُّ به المغفّلون والمكابِرون من العلمانيين العرب؟!
أضف تعليقك