• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

عندما افتتح الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات موسم التطبيع العربي مع الاحتلال، اختار الإسرائيليون أن يوجهوا له دعوة لإلقاء خطاب سياسي في الكنيست، ومن المعلوم دبلوماسياً أنه لا تُعطى هكذا فرصة إلا لقادة الدول التي تجمعها علاقات متينة أو في حال الرغبة بالتكريم، وقد حظي السادات على قباحة ما فعله بحفاوة بالغة في دولة الاحتلال.

 أربعون عاماً على ذلك وما زلنا نجد "إسرائيل" تسلك ذات النهج في مد الجسور مع دول العالم؛ سعي حثيث لنسج العلاقات وتجاوز المحظورات وإظهار الحفاوة البالغة بأية خطوة تطبيعية، كما صارت في السنوات الأخيرة تركز أكثر على تفعيل الأدوات الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية وليس فقط السياسية لكسب الأصدقاء، لاسيما بعد اقتران صورتها في أذهان الشعوب بمشاهد النزاع وعدم الاستقرار، إلى جانب تكشّف الكثير من جرائمها ضد الأطفال والمدنيين والتي ما عادت قادرة على حجبها بفعل سطوة الصورة وتطور آليات الإعلام والتواصل.

ولكن هناك استثناء طرأ على نهج الدعاية الإسرائيلية في تسويق التطبيع مع العرب دولاً وأفراداً على وجه الخصوص دوناً عن بقية شعوب ودول العالم فكلما اتجهت "إسرائيل" نحو البعد في دعايتها عن الجانب السياسي وارتكزت على المشتركات الثقافية والاجتماعية والإنسانية مع الشعوب، من أجل أن تحرر صورتها من الالتصاق بفكرة الحرب والصراع، ومن أجل أن توصل رسالة أنها دولة "سلام وحضارة" كغيرها من دول العالم (الشيء الذي تعززه العديد من الأمثلة، إلى جانب وثائق وزارة الخارجية التي تم مناقشتها في مؤتمر هرتسيليا للأمن عامي 2016-2017)، نجدها في السياق العربي غير مكترثة بهذه المعاني، إذ تركز دعايتها اليوم على الجوانب السياسية والأمنية على وجه الخصوص، وتصدّر مؤسستها العسكرية والأمنية لتكون الوجه الترويجي للتطبيع مع العرب.

لطالما كان التطبيع شأناً أمنياً إسرائيلياً، بمعنى أنه متطلب لتحقيق الأمن لدولة أنشئت على مبدأ اغتصاب الحقوق وخلق العداء مع المحيط، كما بقي التطبيع دوماً شأناً يُدرس ويخطط له في الأروقة الأمنية قبل أن يتم تفويض لاعبين سياسيين واقتصاديين وثقافيين من أجل تحقيقه، لكن ما يحصل اليوم أن التطبيع مع العالم العربي بات يُنفذ عبر أدوات أمنية وعسكرية فاقعة، فلو سألت مجموعة من المواطنين العرب عن أشهر شخصية إسرائيلية يعرفونها ولديهم انطباعات وتصورات عنها ستجيب الأغلبية باسم افيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الذي بات يقتحم بيوتنا عبر التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بأسلوبه الذي يتعمد الاستفزاز وإثارة الجدل وبالتالي المزيد من الانتشار والاختراق، وربما سيذكر الفلسطينيون أيضا الضابط يؤاف مردخاي الذي يتواصل معهم عبر صفحة المنسق في فيسبوك تحت عروض توفير العمل وتراخيص التنقل وغيرها.

لا يقتصر التباين هنا على تولّي جيش الاحتلال مسؤولية التواصل مع الجمهور العربي، في مقابل تولي وزارة الخارجية التواصل مع الناطقين بالإنجليزية أو اللغات الأخرى، بمفردات وسرديات مختلفة تماماً، إنما تعداه في الآونة الأخيرة إلى ظهور مؤسسة الجيش كمنسق مساعد لوزارة الخارجية في استقبال الوفود القادمة من الوطن العربي، آخرها الوفد الإعلامي الذي ضم شخصيات من المغرب وسوريا والعراق ولبنان واليمن، إلى جانب الوفد البحريني الذي التقى أيضا مع جماعات استيطانية متطرفة داخل المسجد الأقصى.

لدى "إسرائيل" أسبابها الكثيرة وراء نقل حالة التطبيع العربي إلى هذا المستوى الفج، لاسيما في ظل وجود بعض العرب المستعدين للانحدار إلى هذا المستوى، لكن يجمع هذه الأسباب أن دعاية الاحتلال تتركز اليوم على اللعب على وتر الصراعات التي تعيشها المنطقة بعد الربيع العربي، لاسيما حالة التوحش التي تمارسها بعض الأنظمة العربية والإقليمية، فتحاول "إسرائيل" القول أنها أكثر إنسانية وأقل خطراً من هذه الكيانات، وأنه يمكن كسر هالة العداء حتى مع أكثر مؤسساتها وحشية في أذهان العرب (الجيش)، ويمكن وضعها أيضاً في محل مقارنة مع جيوش المنطقة التي ترتكب الفظائع، إذ يستطيع العرب مخاطبة الضباط الإسرائيليين والمزاح معهم أو حتى شتمهم ببساطة عبر وسائل التواصل.

وأمام هذه السردية الإسرائيلية، لا يمكن بحال من الأحوال تقييم استضافة المتحدثين الصهاينة عبر الفضائيات العربية بما كان عليه الحال قبل 18 عاماً حين دأبت الجزيرة على أخذ مداخلات الضيوف الإسرائيليين ومسح البلاط بأطروحاتهم خلال الانتفاضة الثانية مثلاً على طريقة جمال ريان الذي قال لشيمعون بيريز أنك تقيم في بيت يملك جدي أوراق ملكيته، أو على طريقة غادة عويس وزملائها في المحاججة المتيقظة والشرسة.

فما تنفذه الجزيرة اليوم لاسيما عبر الاتجاه المعاكس مختلف تماماً عما كانت تقوم به في السابق، إذ أن شكل ومحصلة الاستضافات الأخيرة للصهاينة ينبثق من صلب السردية الإسرائيلية وليس على مبدأ التناقض معها وتفنيدها.. فمناقشة "أحقية" الصهاينة بالقدس على لسان ضيف صهيوني، أو وضع الرواية الإسرائيلية في موضع المقارنة أو التفاضل مع رواية إيران ونظام الأسد، يعني في المحصلة قبولاً وترويجاً للسردية الإسرائيلية القائلة بأن دولة الاحتلال أكثر إنسانية من بعض الأنظمة، والتي لا يملّ المسؤولون الصهاينة من التشديد عليها منذ بداية الثورة السورية.

الأكثر خطورة من كل ذلك هو وجود تيار سياسي عربي يتبنى سردية التقارب مع "إسرائيل" لمواجهة إيران والأسد ويدفع باتجاهها، وفي حين تبدو قطر التي تحتضن الجزيرة ضحية لألاعيب هذا التيار السياسي الذي يحاصرها أيضاً، فإن الجزيرة لا تتعامل بمسؤولية مع سياستها التحريرية بشأن "إسرائيل" واستضافة الصهاينة على شاشتها على الرغم من كل الانتقادات التي تصلها بين الحين والآخر من متابعيها ومحبيها، وعلى الرغم من أن المستوى الذي ذهبت إليه في التطبيع هذه المرة مختلف عما سبقه في تجاوز كل المحظورات إلى حد التورط في الخدمة المباشرة لدعاية الاحتلال ودول الحصار على قطر.

أضف تعليقك