بقلم: مصطفى البدري
قصة معبرة
تحكي العرب في أمثلتها أن الأرنب التقطت تمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب.
فقالت الأرنب: يا أبا حسل (كنية الضب)، قال: سميعا دعوتِ.
قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلاً حَكَّمتما.
قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحَكَم.
قالت: إني وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها.
قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير.
قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت.
قالت: فلطمني، قال: حر انتصر لنفسه.
قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت.
هذه القصة التي ذكرها كمال الدين الدميري المتوفى 808هـ/ 1405م في كتابه حياة الحيوان الكبرى، تعبر بشكل كبير عن سياسة السلفية السعودية، أو ما أسميهم (سلفية ولي الأمر)، حيث إنهم يشبهون أبا حِسْل في كونهم لا يُغضِبون أحدا في السلطة أو في مركز قوة، مهما فعل من جرائم أو انتهك من حرمات، بل إنهم تفوقوا على أبي حِسْل في أنهم يتهمون الضحية دائما بأنها سبب الجريمة التي وقعت في حَقِّها!! ولئن كانت الأمثلة كثيرة في العالم العربي والإسلامي لهذا النمط الذي يزعم ويدعي أنه ملتزم بنهج الصحابة والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فإني سأتكلم هنا عن مثالين بارزين في بلدنا مصر وموقفهما من ثورة يناير وما تبعها من أحداث.
(1)
المثال الأول هو داعية المنوفية المشهور محمد سعيد رسلان، وهو الذي ظل يدافع عن مبارك ويناصره، حتى قامت ثورة يناير فلم يتغير موقفه منه قيد أنملة حتى سقط مبارك، فتحول لمناصرة الجيش والمجلس العسكري بصفته حاكما متغلبا، وكان يرفض أي تظاهرة تحدث في هذه الفترة بدعوى أنها خروج على الحاكم، وكان يتكلم عن الثوار والمتظاهرين ويصفهم بأبشع الأوصاف، وقد حظيت الحركة الإسلامية عموما وأنصار حازم أبو إسماعيل خصوصا بالنصيب الأوفر من هذا السباب العلني على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد نجاح د. محمد مرسي في انتخابات الإعادة، أعلن بيعته ومناصرته له، واعتبره حاكما شرعيا مستحقا للولاية والتأييد (ليس لأنه إسلامي المنشأ والتاريخ، ولا لأنه وطني يحب بلده ويسعى لخدمتها، ولا لأنه إنسان صالح نظيف اليد غير مُتَّهم بفساد، لا لا.. ولكن فقط لأنه أصبح رئيسا) وكان سيفعل نفس الأمر لو نجح شفيق أو صباحي أو أبو الفتوح أو أي أحد، حتى إنه اعتذر على المنبر عن إساءاته السابقة لشخص الرئيس محمد مرسي.
وبعد انقلاب يوليو 2013 عاد لمناصرة الجيش ومحاربة الإخوان ومن وافقهم في اعتصامي رابعة والنهضة، واعتبرهم خوارج يريدون إسقاط مصر، واتهم أصحاب إشارة رابعة بالماسونية، وأعلن (وما زال) ولاءه الكامل للسيسي، واعتبره ولي أمر المسلمين في مصر رغم جرائمه المتكررة في حق الإسلام وعلمائه والمسلمين، ورغم حصاره للمسلمين في غزة ومعاونته الصهاينة ضد المسلمين في فلسطين. ويزعم حاليا أن مجرد الترشح أمام السيسي -في المسرحية التي لا تكتمل إلا بمرشح مقابل- حرامٌ شرعا، وفاعل ذلك آثم، لكني في الحقيقة كنت أنتظر أن يقول بوجوب قتله، طالما أن السيسي ولي أمر شرعي، واستمرارا لتنزيل الأحكام المتعلقة بخليفة المسلمين على سيدنا السيسي أطال الله عمره وأطال بقاءه، فالحكم المستقر عند رسلان وأتباعه هو وجوب قتل من ينازعه الولاية.
وكل هذه المواقف للشيخ رسلان موثقة ومعلنة على موقعه الشخصي وعلى موقع يوتيوب.
(2)
المثال الثاني هو المدرسة السلفية بالإسكندرية ومحركها الدكتور ياسر برهامي، ولئن كان خطُّ الشيخ رسلان الفكري واضحًا وثابتًا من الثورة، فإن مدرسة الإسكندرية قد تأرجح خطها رفضا ومعارضة ثم حيادا وميوعة ثم تأييدا واستفادة ثم إنكارا وجحودا!!
فقد كانت تعيش أيام مبارك في حالة اضطراب وشد وجذب مع الأجهزة الأمنية التي كانت تذيق الحركة الإسلامية ويلات التعذيب والاعتقال والملاحقة، وعند ظهور دعوات التظاهر قبل الثورة خرجت فتاوى من ياسر برهامي وعبد المنعم الشحات تصفها بأنها دعوات للفتنة من شباب أهوج متهور، فلما بدأت التحركات الشعبية في 25 يناير أصدرت الدعوة السلفية بيانا ترفض فيه هذه التحركات التي وصفتها بأنها تخريبية تهدف إلى نشر الفوضى، ومنعت شبابها من المشاركة فيها، ودعتهم للزوم المساجد يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011.
ثم بدأ الموقف يتحول تدريجيا، حيث دعت لإصلاحات سياسية تعقبها انتخابات رئاسية (والظاهر أن هذه المطالب كانت لاحتواء الثورة وليس لقناعتهم بصحتها)، وبعد تنحي مبارك ظهر الشيخ محمد إسماعيل المقدم ليقدم التحية للشباب الحر صاحب فكرة الثورة، وأثنى على وائل غنيم واعتبره إسلاميا! ثم كان القرار بالاستفادة من الثورة والمشاركة في مكتسباتها وأعلنوا تأسيس حزب سياسي وهو حزب النور.
شارك الحزب في الانتخابات البرلمانية وحصل على حوالي 25 % من المقاعد، ورفض دعم وتأييد حازم أبو إسماعيل، بل كانوا كالخصوم والأعداء معه رغم أن برنامجه كان مرتكزا على عودة الإسلام للسيادة والحكم، وهذا هو نفس (ظاهر) ما كان حزبهم يطالب به، كما رفضوا دعم ترشيح د. محمد مرسي، وأعلنوا تأييدهم للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، في خطوة كان من شأنها تفتيت أصوات أبناء الحركة الإسلامية، وفي انتخابات الحسم لم يكونوا واضحين بالشكل الكافي الذي يؤكد رفضهم عودة دولة مبارك ممثلة في مرشحا أحمد شفيق، بل كان كلامهم في شأن تأييد مرسي مائعا جدا، مما بدا كأنه فقط خوفا من انفلات شبابهم إذا دعوا لمناصرة شفيق.
دعوتُ برهامي مرة لخطبة الجمعة في مسجدي بمدينة العبور فلبَّى وحضر، في محاولة منه لاحتواء مجموعتنا التي تعمل تحت مسمى الدعوة السلفية لكنها غير تابعة له ولا سائرة في ركابه، وقد صرَّح لي يومها بأنه على خصومة تامة مع مرشح الحركة الإسلامية الوحيد في ذلك الوقت (حازم أبو إسماعيل) وأنه لن يدعم أيَّ مرشح ينتمي للحركة الإسلامية، ولم يفُتْه أن يخبرني بأن المجلس العسكري فيه أناس صالحون يقومون الليل ويصومون الإثنين والخميس، وبعد ذلك في لقاء عابر بيني وبينه قبل إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة مباشرة، قال لي برهامي: إن حازم أبو إسماعيل هو السبب في الأزمة التي تمر بها مصر حاليا، ولم تكن هناك فرصة للتفاصيل، حيث كان مرتبطا هو وأشرف ثابت بموعد في مقر المخابرات العامة بحدائق القبة.
وبعد نجاح د. مرسي ظلوا متأرجحين بين دعمه ومعارضته حتى انتهى أمرهم لدعم وتأييد جبهة الإنقاذ العلمانية، وأعلنوا الحرب وقتها على ما أسموه (أخونة الدولة) وبدأوا المشاركة في تهيئة الأجواء لإنهاء فترة حكم الدكتور محمد مرسي بطريقة غير شرعية، ودعموا تظاهرات 30 حزيران/ يونيو، وحذّر متحدثهم الرسمي نادر بكار من فشلها، زعما بأن ذلك سيؤدي إلى توحش الإخوان، وشاركوا في مشهد الانقلاب يوم 3 تموز/ يوليو، ودعموا وأيدوا السيسي في كل خطواته رغم نكثه اتفاقه معهم بالحفاظ على الدستور، وخاصة مواد الشريعة وعدم حل مجلس الشورى، وظل ياسر برهامي يدندن حول أن الإخوان هم السبب في كثرة عدد القتلى والمعتقلين، وأن السيسي بريء من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ورفضوا أي دعوات للتظاهر ضد السيسي وحكوماته، وعادوا أسوأ بكثير مما كانوا عليه أيام مبارك.
وهاهم اليوم يعلنون دعمهم وتأييدهم للسيد الرئيس المبجل المحترم (السيسي) في الانتخابات الرئاسية (كما يسمونها)، ولا أعرف سببا واضحا لهذا الدعم والتأييد، حيث لا توجد منافسة على المنصب أصلا!!
ختامًا
وإذا كان الجواب عن شبهات هؤلاء -الذين أراهم أبعد ما يكون عن السلفية الحقة -يحتاج تفصيلا كبيرا، فسأذكر هنا ما يناسب المقام في نقاط سريعة:-
1- الدعوة للخنوع والرضا بالظلم والقهر أمر مصادم للفطرة البشرية، والإسلام هو دين الفطرة.
2- إذا كان هناك كلام للسلف في المنع من الخروج على الحاكم المسلم، فإننا لم نعرف لأحد منهم أي كلام في مناصرة الحكام الظَّلَمة وتأييدهم ضد المظلومين. وإذا كنا سمعنا عن صحابة وقفوا أمام الحسين وحاولوا منعه من الخروج إلى الكوفة، فإننا لا نعلم عن صحابي واحد أنه ناصر يزيد بن معاوية أو أيده في جرائمه.
3- هناك فرق كبير بين التحذير من عواقب الخروج المسلح على الحاكم المسلم، وبين تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الحاكم الظالم.
4- لا يجوز بحال إبراز جانب الأدلة الذي تؤيد به رأيك، ثم تتجاهل الجانب الآخر الذي يؤكد على ضرورة رفض ظلم الحكام ومنعهم من أي اعتداء على الحقوق الخاصة والعامة.
5- أكثر من يستشهدون بكلامه من العلماء في هذا الباب ويزعمون الانتساب إليه هو ابن تيمية رحمه الله، وهو هو الذي دعا المسلمين للخروج على التتار المسيطرين على بلاد الإسلام ومواجهتهم بالسلاح رغم ادعائهم الإسلام، مستشهدا بتعطيلهم الشريعة والجهاد وانتهاكهم الأعراض والحرمات.
6- "وهو الأهم عندي الأهم" لم تعرف أمة الإسلام في تاريخها الطويل حكاما كحكام اليوم يعطلون الشريعة ويعاقبون المطالبين بها بالقتل والسجن والمطاردة، ويعطلون الجهاد ويحاربون المجاهدين ويوالون الكفار وأعداء الأمة ويناصرونهم ضد المسلمين، ومن ثم فأقوال العلماء لمنع الفتن الداخلية في ظل حكام يقيمون الشرع في الجملة، ويرسلون الجيوش لمواجهة أعداء الإسلام في شتى الجبهات (دفعا وطلبا)، لا يجوز ولا يسوغ تنزيل هذه الأقوال من أجل مقاصد مخالفة ومصادمة ومعاكسة للمقاصد التي قيلت من أجلها.
والله من وراء القصد
أضف تعليقك