في مصر فقط، الحرية كلمة نابية، الهتاف بها خروج عن القانون، وانسلاخ عن قيم الوطنية، بمفهوم هذا المرحلة المنكوبة بطاغية الضرورة.
“حرية.. حرية.. حرية”، هكذا تغنت مجموعة من جماهير النادي الأهلي المصري، فدوت صافرات الإنذار في قصور الحكم ومقرّات الأمن وستوديوهات العسس الإعلامي، وأعلنت حالة الطوارئ: الوطن في خطر محدق بمواجهة أهل الشر الذين يجهرون بمطلب الحرية، ويكفرون بأقانيم الطغيان والاستبداد، ويصوّر لهم خيالهم المريض أنهم بشرٌ يستحقون الحرية في القول والفعل.
بسرعة البرق، تحركت فرق الغيستابو، وتحول النداء على الحرية إلى أعمال شغبٍ تستوجب اعتقال الحناجر وإحراقها فوراً، كي لا تقوّض دعائم الوطن الذي تعافى بالكاد من أمراض الديمقراطية والكرامة الإنسانية والحرية.
على الفور، أعلنت إدارة النادي الأهلي إدانتها واستنكارها جريمة ورود ذكر الحرية على ألسنة القلة القليلة المندسّة.
وبالتوازي مع ذلك، استنفر البرلمان كل قواه، للتصدّي لهذه الخيانة الوطنية، وتسابق نواب وسياسيون في طرح المبادرات والأفكار، للقضاء على هذه الشرذمة من أعداء الوطن، ومضت حفلة الجنون إلى اتهام الذين هتفوا من أجل الحرية بالإرهاب والتخريب.
كل هذا متوقع وغير مفاجئ، في بلد اختطف طفلاً صغيراً بتهمة ارتداء “تي شيرت” يحمل عبارة “وطن بلا تعذيب”، واعتقل شاباً بتهمة حمل وقراءة رواية جورج أورويل “1984”، ويعتبر التعبير عن الوجع من كثرة التعذيب خيانة للبلاد، وتعريضاً لأمنها للخطر.
المفاجئ، بعض الشيء، هنا هو حالة البلادة التي تهيمن على ردود أفعال النخب السياسية، التي لطالما صوّرت نفسها مدافعةً عن الحرية، إذ لفّها الصمت، وابتلعها الخوف، حتى أن جريمة قتل حزب سياسي، وإنهاء وجوده، واعتقال رئيسه، كما في حالة حزب مصر القوية وعبد المنعم أبو الفتوح، مرّت من دون أن يفتح أحد فمه، أو يصدر بياناً يستهجن أو يستنكر أو يحذر من العواقب.. فقط بيانات خجولة حين ألقي القبض على أبو الفتوح، ثم لا شيء عن إعدام حزبه.
يغرّد محمد البرادعي، مثلاً، عن كل شيء، إلا محرقة الحريات في مصر، مرّ عليه موضوع أبو الفتوح وهشام جنينة، فلم ينطق، ثم أدخل نفسه في سجالٍ محرج ومؤلم مع الطفل الشاب معتقل التيشيرت، لكنه غزير جداً وسخيٌّ عند التغريد في أمور أخرى، مثل ترويج الذهاب إلى القدس المحتلة، في تكرارٍ ممل وممجوج، لدعواتٍ سابقة يلح عليها دعاة التطبيع، ومنظرو التفكير خارج الصندوق، وفي الذاكرة لقطاتُ لقائه الحار مع مجرم حرب صهيوني، بحجم إيهود باراك.
والواقع أن مسألة الحريات السياسية والدفاع عن حق الإنسان في الكرامة تصلح ميداناً فسيحاً، يركض فيه محمد البرادعي ويغرّد، وخصوصاً أنه كان أحد الذين ساعدوا على الوصول إلى اللحظة التي يصبح فيها الهتاف بالحرية تهمة وجريمة، غير أنه يؤثر التغريد في الأضمن والأسلم، على الرغم من أنه، منذ ظهوره في المشهد السياسي، ودرجاته في الموضوع الفلسطيني ضعيفة للغاية، بل إنه ليس تجنيّاً على الرجل أن يقال إنه رسب، غير مرة، في كل اختبار يتعلق بهذه القضية، بحيث لا تختلف إجاباته عن إجابات عبد الفتاح السيسي وسامح شكري وأحمد أبو الغيط.
يبدو غريباً حقاً دخول محمد البرادعي على خط الدعوة إلى السفر إلى القدس المحتلة، في توقيتٍ تتسارع فيه خطوات الهرولة العربية الرسمية نحو الإذعان للتصور الأميركي-الإسرائيلي للسلام، كما يفهمه ويريده مجرمو الحرب، والاستسلام لإعلان دونالد ترامب التهويد الكامل للقدس، بتنفيذ قرار نقل سفارته إليها.. وفي ذلك، يمكن للبرادعي الرجوع إلى أدبيات أهل القدس الحقيقيين من العرب المرابطين في المدينة المحتلة، ويسألهم ويستمع إلى الإجابة: القدس محتلة، بل يتفاقم احتلالها، ومن ثم تبقى الأسباب الوجيهة لعدم زيارتها وهي تحت الاحتلال قائمة، وهي أسباب قتلت بحثاً وتمحيصاً في المجامع الفقهية والدوائر السياسية، وكلها انتهت إلى أن زيارة القدس بتأشيراتٍ صهيونية، وبرغبة سلطات الاحتلال وتحت إشرافها، هي سقوط في شرك التطبيع المجاني.
لا تحتاج القدس من البرادعي أن يروّج زيارتها، بل تحتاج منه أن يتحرّر من ترفعه عن النضال من أجل حرية الإنسان في وطن محكوم بأوغاد يستثمرون في التطبيع، ويستبسلون في تكريس الاحتلال.
أضف تعليقك