"يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة".
ربما يعرف كثير من القراء أن هذه العبارة قِيلت في سياق الحصار الجائر الذي ضربته قريش على بني هاشم وبني المطلب في شِعْب أبي طالب على مدى ثلاث سنوات، لكن من المؤكد أن اسم قائلها لم يعْلَق في ذاكرتهم، إنه زهير بن أبي أمية، رجل من مُشركي قريش، أخذته نخوة عربية عندما رأى ذوي الأرحام يتعرضون إلى ذلك الأذى.
لقد كان المُحاصَرون في الشِّعْب أسعد حظا بهذا الرجل المشرك من أهل قطر الذين حاصرهم أبناء المِلّة والدين والعروبة والقُربى والمصاهرة، فغابت النخوة، وظهر الفُجور في الخصومة.
جاوزَ الحصار مُعظم العام، ولا يزال أهل قطر في صمود ضد النيل من سيادتهم، فيطرح السؤال نفسه بنفسه: إذا كانت القيادة القطرية لم تُسلِّم حتى هذه اللحظة، ونجحت في توفير البدائل اللازمة لتسيير الحياة العامة داخل الدولة، فعلام تعول دول الحصار أمام أنَفَة القيادة القطرية وإصرارها على عدم التنازل عن قرارها السيادي؟
تُدرك دول الحصار جيدا أن الحكومة القطرية لن ترضَخ لتلك الشروط المُجْحفة المُهينة، لكنها تُعوِّل على تغيير اتجاهات الرأي العام القطري عن طريق إحداث أزمة اقتصادية، بناء على الدراسات المعروفة الخاصة بالرأي العام واتجاهاته وأنواعه وكيفية تشكيله.
ابتداءً أرغبُ في أن يتعرف القارئ على ما تعنيه كلمة الرأي العام، لأنها متداولة بقوة على الساحة السياسية والثقافية، ومن ثم يجدر بنا أن نُوفّر على بعض القراء عناء التفكير في ذلك المصطلح.
الرأي العام القومي أو القُطْري أو الوطني، هو عبارة عن الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية في فترة معينة بالنسبة لقضية معينة أو أكثر، يحتدم فيه الجدل والنقاش، وتمسُّ مصالح هذه الأغلبية أو قِيَمَها الإنسانية الأساسية مسًّا مُباشرا. ومن خلال هذه التعريف يتبين لنا أن الرأي العام لا يعني رأي الشعب بأكمله، كما قال الفيلسوف فيلاند، فالمُعتبر هو رأي الأغلبية العظمى من الشعب، لأنه لا يمتنع أن تكون هناك بعض الفئات لها اتجاه ورأي آخر مُغاير. ووصْفُ الأغلبية بالواعية، فيه إشارة إلى دور التنظيمات الشعبية ووسائل الإعلام والتوعية في إيضاح المسائل العامة، التي يلزم أن يُلِمَّ بها الشعب وغابت عنه بسبب الجهل وضعف الوعي. وهذا الرأي يكون في فترة معينة، حول قضية معينة ثار حولها الجدل والنقاش، الذي من شأنه تقليب أوجه المشكلة واعتماد التفكير السليم كسبيل للوصول إلى الحقيقة. على أن تكون هذه القضية مما يمسّ المصالح المشتركة لهذه الأغلبية، ليصلُحَ تسميته بالرأي العام، وليس حتميا أن تمسَّ المصالح المادية فحسب، فقد تكون ذات طابع إنساني مهم، كقضايا التمييز العنصري والعدوان على الشعوب بصفة عامة.
في الحالة القطرية يُعد الحصار قضية رأي عام، لأن رفْضَه رأيٌ سائد بين أغلبية الشعب الواعية في تلك الفترة، ويحتدم حولها النقاش باعتبار أن هناك معارضة في الداخل والخارج تؤيد ذلك الحصار، ولا هم لها سوى إسقاط الحكومة القطرية، بينما تمسّ هذه القضية مصالح الأغلبية القطرية، سواء كانت مادية عن طريق الحصار الاقتصادي ومخاطره، أو إنسانية باعتبار الجانب المُهين الذي يستهدف كرامة القطريين وحقَّهم السيادي.
الحصار لا يهدف إلى التأثير المباشر على القيادة القطرية، وإنما يهدف إلى تغيير الرأي العام القطري بإثارة حالة من التذمّر ورفض سياسات الدولة والضغط عليها، ودفعها إلى التماهي مع شروط دول الحصار، اعتمادا على إثارة المخاوف الاقتصادية والأمنية لدى المواطنين جرَّاء طول أَمَد الحصار.
دول الحصار إذن تستغل الدوافع الأساسية للسلوك البشري للتأثير على الشعب القطري، وعلى رأسها الدوافع البيولوجية النابعة من حاجة الكائن الحي، وحرصه على استمرار الحياة، وذلك عن طريق التهديدات الاقتصادية وإثارة المخاوف إزاءها، لأن الإنسان في حال افتقاد الأمن الغذائي يضع كل قدراته وطاقاته في خدمة تلبية هذه الاحتياجات، ولذا تمكن النازيون من الوصول إلى الحكم في مطلع الثلاثينيات، اعتمادا على الأزمة الاقتصادية العالمية، فوجهوا الدعاية ناحية العمال بالتلويح بورقة الغذاء وتوفير العمالة، وكانت النتيجة أن الحزب الذي كان تعداد أعضائه لا يتجاوز الثلاثمئة ألف، استطاع أن يحصد أصوات أكثر من ستة ملايين عاطل وجائع.
إن أسلوب الحصار والمُقاطعة الاقتصادية من أجل التحكم في اتجاهات الرأي العام لدولة ما، والتأثير على سياستها، انتهجته الدول الاستعمارية والإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فحصار العراق الذي وطّد لاحتلالها ليس عنا ببعيد، وقبلها استخدمت التهديد بورقة المعونات مع اليونان، عقب الحرب العالمية الثانية، عندما هدّدت الشعب اليوناني بمنع شحنات القمح عنه إذا قام بانتخاب الحكومة الاشتراكية.
كما استخدمت أمريكا الأسلوب نفسه مع مصر في الخمسينيات، عندما منعت شحنات القمح عنها، في الوقت الذي كان مخزونها لا يكفي لاحتياجات الشعب لأكثر من أربعة أيام، بهدف الضغط على القرار السياسي. فإذا كان الرأي العام القطري هو المستهدف، فإنه ينبغي أن تكون هناك عناية قطرية خاصة بدراسات الرأي العام، ودعم صمود الشعب والتفافه حول قيادته، تقع هذه المهمة على عاتق قادة الرأي والإعلام والتنظيمات الشعبية، والقيام بتوعية الشعب بعناصر أسلوب الحرب النفسية من شائعات، وافتعال للأزمات وإثارة الرعب، إضافة إلى قيام الإعلام بتعزيز الصمود عن طريق أساليب التكرار والإثارة العاطفية والشفافية وعرض الحقائق والبرامج الإيجابية المحددة. وحتما ليست القيادة القطرية بحاجة إلى مثل هذه التوجيهات المعروفة، لكن حديثي هنا إلى الأشخاص والمؤسسات الواقعين خارج نطاق الدوائر الحكومية.
إن دعوتنا إلى صمود قطري لا تعني حتما سكْب الزيت على النار وتأجيج الخلاف بين الأشقاء، فلكُلّ من إخوتنا قدره ومكانته، وإن خالفنا أحدهم في شيء، فسبق وأيّدناه في أشياء، ووقفنا معه مُدافعين في الخندق ذاته ضد أعداء الداخل والخارج، في عزّ إنكارنا لبعض القرارات والإجراءات، لكن أحببنا الإشارة الى أن صمود القطريين مرتكز على عدالة القضية، ويقي المنطقة والأمة من تكرار محاولات فرض الرأي بالقوة بين بلدانها، ومن ثم الإغراق في مزيد من الفوضى والاستبداد، فالأولى أن يرجع الباغي الجائر لا أن يستسلم المظلوم.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك