يبدو بائسا للغاية ما وصلت إليه أحوال المملكة العربية السعودية في نسختها الجديدة المستنسخة عن أبوظبي، انخلاع كامل عن هوية ظلت مستقرة لقرون، وأنفقت المملكة المليارات في نشر أفكارها. اليوم، تبدو السلفية الوهابية غير مرحبة بها في مملكة ابن سلمان، ولو أن الأمر بيده لمحى من تاريخ الحجاز ونجد تلك الحقبة بحاضرها وماضيها ومستقبلها، ونزع عن العقول في الداخل والخارج أي رابط بينهما.
بالمطلق، لا بأس بالتحولات الفكرية، الفارق كبير بين الجمود والثبات، لا عاقل يرفض التطور أو يعتبره تخذلا عن التمسك بنهج قديم في مواجهة حداثة طاغية. لكن الأمر في السعودية لا يبدو تحولا فكريا وهوياتيا على الإطلاق، إنه أمر أشبه بالجنون، انخلاع كامل يحاول بكل طريقة ممكنة أن ينزع نفسه عن ماضيه، هذه حالة نادرة من فقدان الهوية وتيه الانتماء.
ما السعودية هذه الأيام؟ كيف يمكن أن نصنفها؟ عربية هي؟ إسلامية؟ علمانية؟ في الحقيقة لا يمكن الجواب عن هكذا سؤال بوثوق كبير.. واهمون من يظنون أن نهاية الرحلة السعودية ستقف على أعتاب نسخة الإمارات، لا، المملكة تسير نحو طريق هي نفسها تجهل نهايته، تخلع عنها كل ساتر، حتى تلك الغطرة وذلك العقال.. السعودية الجديدة لا تريد أي ارتباط بماضيها السحيق، وبسرعة لا يمكن استيعابها.
قبل أسابيع فقط، انطلقت أول فعالية من نوعها على مسرح بالرياض، يستضيف عملا فنيا بفريق تمثيل مختلط، وجمهور مختلط، للمرة الأولى في تاريخ المملكة، لا حضور للهيئة هذه المرة، والهيئة هنا هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أصبح الإيضاح هذه الأيام واجبا، فهناك هيئة أخرى سيطرت على الساحة تماما.. هيئة الترفيه.
تقود هيئة الترفيه حملة تغريب غير مسبوقة بالمجتمع السعودي، توزع أنشطتها بعموم المملكة، مستفيدة من حملة اعتقالات واسعة طالت جميع العاملين بالدعوة تقريبا عدا المتردية والنطيحة والسديس وما أكل السبع. تستهدف الهيئة بين الحين والحين مناطق أكثر بداوة بفعاليات تكسر بها حاجز رفض التحول بالمجتمع، لكن لا تزال بعيدة عن الولوج إلى مناطق القلب السعودي المحافظ نوعا ما.
لكن جهود الهيئة تبدو منصبة بشكل رئيس على منطقة الحجاز، لا سيما مدينة جدة الساحلية، التي يبدو أن الخطة الجديدة تستهوي تحويلها إلى "شرم شيخ" المملكة، الأمر الذي سيستوجب تغييرا كبيرا في بنية أهلها، وبنية ما يجاروها من بلدات، وهنا تكون المشكلة الأكبر، إذ على أعتاب جدة تقع واحدة من أقدس بقاع الأرض إن لم تكن أقدسها على الإطلاق.. مكة المكرمة!
على ما يبدو، لا تشكل مجاورة جدة لمدينة بيت الله الحرام فرقا لدى الهيئة، بل ربما وجدت في ذلك دافعا لزيادة نشاطها المحموم لخلع تلك المنطقة عن هويتها، لتكون المحصلة عشرات الفعاليات في مكة والمدينة وجدة، تتقاطر بين الانفتاح الكامل حينا، وبين مس أبواب الثوابت المقدسات أحيانا أخرى بحيل تسلل مفضوحة لكنها تجد طريقها عند من ينتظرون تلك اللحظة منذ عقود.
فمكة، مدينة رسول الله، شهدت قبل أيام أول مارثون نسائي من بنات المملكة، ربما تم جلبهن من بلدات مجاورة ليحيين الفعالية خوفا من عزوف بنات مكة عن الجري في الشوارع أمام الكاميرات، وهن من كن يتقاتلون في منصات الفقه بساحة المسجد الحرام حول جواز ستر عين وإغفال واحدة للرؤية على جانبي الطريق.
قبل انطلاق تلك الفعالية، عممت الهيئة بيانا لوسائل الإعلام يؤكد أن المارثون سوف يقام وفق الضوابط الشرعية، دون اختلاط أو تراقص أو إسفاف.. ثم لاحقا، تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية صور المارثون والمشاركات به، ليضرب مثلا فيما يمكن أن نسميه: ما بعد الاختلاط والتصدر!
اليوم، تشهد مدينة جدة حفلة للمغني المصري تامر حسني، تتصدر تذاكرها تنبيهات واضحة بأنه الحفل سيقام وفق الضوابط الشرعية، وتزيد الأمر وضوحا فتؤكد أنه "ممنوع الرقص والتمايل والتدخين"، وأنه يجب الالتزام بـ"الزي الشرعي المحتشم"، أثناء حضور الحفل المهيب.. مشهد عبثي في الحقيقة، بعض المشاهد من هكذا نوع يكون من الصعب التعليق على سخافتها، لكن حين يكون الأمر بجوار البقعة الطاهرة، فإن ذلك مدعاة لاستجداء الكلمات لإعلان البراءة من هذا السخف كله.
أضف تعليقك