يأتي كلام وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الذي حمّل فيه جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية عن التطرف والإرهاب منسجما تماما مع التوجه الذي ما لبثت المملكة العربية السعودية تتبناه منذ انطلاق موجات الربيع العربي في أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011، وهو توجه معاد لكافة أشكال الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة في المنطقة العربية، وبشكل خاص ذلك الحراك الذي يستلهم فكره ومنهجه من تعاليم الإسلام.
ففي محاضرة ألقاها في معهد إيغمونت، في العاصمة البلجيكية بروكسيل مؤخرا، قال الجبير إن "جماعة الإخوان هي الأب الذي أفضى إلى تأسيس منظمة التكفير والهجرة التي ظهر منها أيمن الظواهري، والتكفير والهجرة الأب الذي أدى لظهور القاعدة، والقاعدة هي الأب للنصرة وداعش؛ لذا نحن لدينا نظرة سلبية تجاه الإخوان، وبالخصوص الإخوان في مصر".
والحقيقة أن مزاعم الجبير مخالفة للواقع بقدر ما هي مخالفة للمنطق، فالإخوان المسلمون لا يتحملون المسؤولية عن أي من مظاهر الغلو أو التطرف التي شهدتها المنطقة العربية أو العالم الإسلامي بعد نشأة الجماعة في عام 1928، بل تتحمل المسؤولية عن كل هذه المظاهر أنظمة الظلم والاستبداد والفساد التي كانت باستمرار تستفز الناس وتدفع بنفر من الشباب المتعجل نحو مواقف غالية فكريا أو عمليا، بعد أن أغلقت في وجوه المطالبين بالإصلاح السلمي كل الأبواب، سوى أبواب السجون والمعتقلات، بل وصل الأمر بالأنظمة الدكتاتورية إلى تعليق بعض كبار المفكرين والموجهين المصلحين على أعواد المشانق، كما فعل نظام جمال عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكما هو ديدن النظام الانقلابي الحالي في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي، ذلك النظام الذي ما كان لينجح انقلابه لولا ما وفره له نظام آل سعود ونظام آل نهيان من تمويل ودعم سياسي وإعلامي؛ بهدف إحباط مشروع التحول الديمقراطي السلمي في مصر كجزء من الثورة المضادة التي أشعلوا نيرانها -وما زالوا يسعرونها- في كافة أنحاء العالم العربي، ما خلف دمارا وخرابا لم تشهد له المنطقة مثيلا في تاريخها منذ غارات المغول.
لم يزل منهج الإخوان في الإصلاح والتغيير منذ نشأة جماعتهم ملتزما بالإصلاح السلمي والتدرج فيه، بدءا بالفرد، مرورا بالأسرة، فالمجتمع، وصولا إلى الدولة، وقد ميز الإخوان تمييزا قاطعا بين مواجهة مخالفيهم أو معارضيهم وحتى جلاديهم من أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد وبين مواجهة الغزاة والمستعمرين. فالصنف الأول ينبغي -في فكر الإخوان الأصيل وفي منهجهم- الصبر على دعوته وإرشاده وتوجيهه، كما ينبغي كذلك تحمل أي أذى قد يصدر عنه مهما بلغ؛ لأن إصلاحه وإصلاح من يليه هو الغاية.
أما الصنف الثاني، كالمستعمر البريطاني في الحالة المصرية والغازي الصهيوني في الحالة الفلسطينية والإسلامية عامة، فمقارعته بكافة الوسائل مشروعة إلى أن يتحقق إخراجه وتحرير بلاد المسلمين من براثنه، ولا يستثنى من تلك الوسائل القتال جهادا في سبيل الله، وكم كان للإخوان صفحات ناصعة البياض في ذلك حين تصدوا للمستعمر البريطاني في مواجهات القناة داخل مصر وفي فلسطين، وكذلك حين نفروا إلى فلسطين من كل مكان ليدفعوا عنها خطر الغزو الصهيوني اللعين. وظل الإخوان على هذا النهج طوال تاريخهم، ولم يحرفهم عن ذلك افتتان بعض المسلمين، بما في ذلك بعض أفرادهم، بل وانحرافهم، مثل أولئك الذين قال فيهم حسن البنا رحمه الله "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"، ومثل من رد عليهم المرشد الثاني حسن الهضيبي في كتابه الشهير "دعاة لا قضاة".
ولقد حدثني بعض من أجريت معهم مراجعات لبرنامجي في قناة الحوار، ومنهم المرشد السابق للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف رحمه الله والأستاذ إبراهيم منير وأخيرا الشيخ يوسف القرضاوي، عن الحوارات الطويلة التي جرت داخل الإخوان في المعتقلات وخارجها حينما بدت أمارات تعجل البعض وحينما أوّل بعض الناس ما كتبه الشهيد سيد قطب بشكل أو بآخر لتبرير التكفير أو تبرير اللجوء إلى العنف. فكانت مثل هذه الحوارات وما رافقها من إجراءات معالجات شافية وواقية، نأت بالجماعة عن الغلو وصانتها من خطر التعجل والانحراف، ولفظت خارج صفوفها من لم يقتنع بمنهجها ويصبر على طريقها.
وتشهد رابعة على ثبات الإخوان على هذا الموقف، إذا نادى مرشدهم الأسير محمد بديع، فك الله أسره وفرج كربه هو وإخوانه، بأعلى صوته من ميدان رابعة العدوية -بينما كانت قوات السيسي وفلوله الممولة سعوديا وإماراتيا تفتك بالمتظاهرين والمعتصمين العزل- محذرا من أي انزلاق نحو الرد على العنف بمثله قائلا: "سلميتنا أقوى من الرصاص".
إن مثل عادل الجبير في تحميل الإخوان المسلمين المسؤولية عما نشأ في عالمنا العربي بل والإسلامي من مظاهر غلو وتكفير وعنف غير مشروع؛ هو مثل من يحمل جيل الصحابة المسؤولية عن ظهور فئة الخوارج الذين كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويتوهمون أنهم يدافعون عن حياض الإسلام حينما اغتالوا أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه، أو قبل ذلك ظهور فئة عرفت باسم الثوار تورط بعضهم في سفك دم أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، أو مسؤولية النصوص الإسلامية، بل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، عن انحراف بعض أبناء المسلمين الذين يشرعنون ويبررون العدوان على الأبرياء باسم الدين.
لئن كان ثمة من يتحمل المسؤولية عن ظهور تنظيم القاعدة ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فإنها الأنظمة العربية الفاسدة المستبدة، وعلى رأسها نظام آل سعود، الذي ما لبث منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي يستفز مشاعر المسلمين حول العالم ببذخه وإفساده واستجلابه للقوات الأجنبية وتورطه في تمويل الفساد والظلم في كل مكان.
وللناس أن تتصور ما الذي كانت ستؤول إليه أوضاع المسلمين اليوم لو لم يتدخل السعوديون والإماراتيون بكل ما أوتوا من مال ونفوذ لإفساد ثورات الربيع العربي والإطاحة بأول نظام سياسي منتخب في تاريخ المنطقة العربية بأسرها وفي تاريخ مصر الممتد عبر العصور. للناس أن تتخيل كيف كانت الشعوب ستفرز بإرادة حرة وكرامة مصانة من يمثلها في الحكم حقا، ومن تملك حق محاسبته واستبداله، وكيف كانت هذه الشعوب ستلغي ما أقامه المستعمر بينها من سدود وتكسر ما فرضته عليها الأنظمة المستبدة من أغلال وقيود، وكيف كانت فلسطين ستتهيأ للتحرر من رجس الصهاينة، وكيف كان المسجد الأقصى المبارك سيعود إلى حضن أمته بعد التحرير المرتقب.
ليس من المبالغة في شيء القول إن نظام آل سعود، ومثله في ذلك نظام آل نهيان، وعلى شاكلتهما أنظمة عربية أخرى جاثمة على صدور العباد في هذه البلاد، هي الكارثة الحقيقية التي ابتليت بها أمتنا، إنها العقبة الكؤود في وجه التحرر والنهوض، إنها العدو الأول للشعوب التي نهضت من أجل استعادة كرامتها وصيانة حقوقها.
أما الإخوان المسلمون، فهم فكرة نبيلة قبل أن يكونوا تنظيما، والفكرة لا تموت أبدا، إنها فكرة أن البشر عباد الله، وأن من حقهم أن يعيشوا حياتهم في أرض الله بحرية وكرامة، وأن من يسعى لاستعبادهم سيناله في نهاية المطاف ما نال النمرود وفرعون وكل طواغيت الأرض عبر الزمان.
أضف تعليقك