• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

كشفت أحداث الثورات العربية عن قدر كبير من الاتكاء على المنظومة الدولية. وهذا، وإن كان في جانب منه مفهوما بالنظر إلى التركيب السياسي العالمي الذي يهمين فيه النظام الدولي على العالم، وتشكل الدولة الوحدة الأساسية فيه، كما أنّه مفهوم بقدر ما بالنظر إلى مجالات الفاعلية السياسية، فإنّه غير مفهوم من جهة الاعتماد على الحس الأخلاقي للمنظومة الدولية التي تتبنى القيم الغربية، أي قيم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.

مع انسداد الأفق السياسي، وعجز الفعاليات المتنوعة، السياسية والفكرية والاجتماعية، عن تحقيق اختراقات جديّة في واقع الدول العربية، واستمرار حالة التردي الشاملة في البلاد العربية كلها، وصلابة سيطرة الدولة على المجال العام، فإنّ انزياحات فكرية أخذت تتسع باتجاه تبني المنظومة القيمية الغربية.

كانت ثمة اعتبارات سياسية بالتأكيد لدى القوى المعارضة والساعية للإصلاح، بمعنى تقديم تنازلات للقوى المهيمنة لأجل نيل اعترافها، وهو ما كان يعني افتقار بعض قوى المعارضة والتغيير لأدوات نقدية تعالج فيها المنظومة القائمة، مما أدّى بالضرورة، ومع مرور الوقت، إلى ضعف الوعي بهذه المنظومة، من الدولة المحلية صعودا إلى القوى الكبرى. كما أدّى إلى تراجع الحساسية تجاه السياسات الاستعمارية بأشكالها المتجددة للقوى المهيمنة، وتوظيفها الذرائعي لقيمها المعلنة، وفي أحسن الحالات، عبّرت قوى التغيير والإصلاح عن خطاب يروم إحراج القوى المهيمنة بنقد ازدواجية معاييرها، دون الولوج إلى حقائق تلك القيم، أو إعادة إنتاج خطاب نقدي للسياسات الاستعمارية المستجدة.

الاعتبارات الثقافية، لدى العديد من المثقفين والسياسيين، بما في ذلك بعض المشتغلين بالفكر الإسلامي، أو المتحركين على تخوم الحركية الإسلامية.. لم تكن تخلو من الإحساس بالهزيمة، وبالتالي الجنوح الثقافوي لتفسير الانسداد الحاصل في البلاد العربية؛ بالفجوة القيمية بين العرب والمسلمين وبين الغرب، مع تغييب للتاريخ الاستعماري الذي انبنت عليه الحضارة الغربية، ولو في جوانب أساسية منها، واستمرار تلك السياسات الاستعمارية، والتي تستهدف بلادنا ومنطقتنا بشكل كبير، بالرغم من وقوفنا خارج المنافسة الحضارية في هذه اللحظة من الزمن، مما يعني إحساسا غربيّا بالتحدي الذي يمكن أن تشكّله هذه الأمة لو نالت حريّتها.

بانفجار الثورات العربية، بدا الغرب قريبا. فقد دعت الولايات المتحدة الأمريكية لتنحي مبارك، وتدخلت القوى الغربية لإسقاط القذافي، وبدا وكأن قيما تحكم هذه السياسات، بيد أن هذه القيم انتحرت تماما فيما بعد. فبينما انشغلت الديمقراطيات الغربية بنقد سياسات الرئيس التركي أردوغان بحجة نزعاتها السلطوية وتجاوزها للأعراف الديمقراطية، فإنّها كانت تسلّم تماما بالحكم الدموي المطلق لعبد الفتاح السيسي، وتغض الطرف عن عمليات الإبادة والتهجير والقتل الواسعة التي تجري في سوريا. وعلى نحو مريب، لم يكن لدى تلك القوى أي إشكال في الحرب الدائرة في سوريا، سوى في استخدام غاز السارين!

وبالرغم من كشف الدولة العربية عن قدر هائل من التوحش المنفلت، ظلّت بعض القوى والشخصيات الإصلاحية تعتبر هذه الدولة معيار الحركة ومصدر الشرعية، ويمكن هنا اتخاذ عبد المنعم أبو الفتوح نموذجا في دعمه لحملة الجيش المصري على سيناء، وتناوله المحفوف بالتقديس لمؤسسات الدولة، وخاصة الجيش، بما ينم عن انعدام المعالجة النقدية للدولة، أو انعدام أي احتمال لديه لاعتبار الدولة هي المشكلة.

وأما في السياسات الاستعمارية تجاه بلادنا، فلم يتجاوز الموقف من المنظومة الدولية؛ الهجائية التقليدية، مع ملامسة سطح السياسات الاستعمارية، دون أي نقدي جدي وتأسيسي لها. وقد كان يغنينا في الحقيقة عن هذه التجربة المرة، والاتكاءات العاجزة، الاعتبار بالحالة الفلسطينية التي تنتحر على عتباتها كل قيم الإنسانية التي تعلنها القوى الكبرى، لكن الوعي بالعامل الاستعماري ظلّ ضعيفا في خطابات وسياسات قوى الثورات العربية.

إننا بحاجة إلى إعادة بناء تصور شامل لا يكتفي بوضع الدولة والمنظومة الدولية في قلب مشكلتنا، وإنما - وبالإضافة إلى ذلك - الوعي بالعلاقة المتبادلة بين القيم والثقافة وبين القوة، وهذا لا يتأتى إلا بتناول مشكلتنا في سياق مشكلة أكبر، وهي المشكلة مع الاستعمار الغربي.

أضف تعليقك