لم يعد أنصار النظام السوري وحلفاؤه يلجؤون إلى تكنيك الإنكار كما كان في بدايات الثورة (لا شيء في حمص)، وعلى أيّ حال، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم؛ لم يكن موقفهم تكنيكا دفاعيّا، وإنما كان انبثاقا عن عقيدة ملازمة تَصدر عنها تلك المواقف، فنمط الانتماء السياسي لعموم أنصار النظام وحلفائه هو من النوع الذي يُوثّن الكيانات والأشخاص التي يؤول إليها الانتماء، وفي هذه الحالة يصبح "الوثن = الدولة، الحزب، الشخص"، معيار القيم والمفاهيم، فالجريمة والضحية وما يجوز وما لا يجوز، كلها تتغير بحسب الموقف السياسي، والحقيقة هي فقط ما يحدّده الوثن، وما سوى ذلك أكاذيب مصنوعة في معامل وستوديوهات الخصوم، وكأي دين، لا بد من سردية كبرى، والوثنيات لا تخلو من سرديات، كالمقاومة، التي يجري تحويلها من فعل إنساني طبيعي، إلى غطاء ديني لاجتماع وثني!
وإذا كانت عصبويات الانتماء قابلة في طبيعتها للنزوع نحو التوثين، فإنّ الاجتماع المطبق والشديد في حدّته لدى أنصار النظام السوري وحلفائه على النمط الوثني من الانتماء.. ممكن التفسير، بيد أنّه ليس من مطالب هذه المقالة. الآن -ورغم وجوده- لم يعد الإنكار هو السائد في دعايات النظام وحلفائه، فالغالب على خطاب أنصار النظام وحلفائه إزاء أحداث الغوطة هو الإعلان الصريح عن استحقاق أطفالها ومدنييها السحق، وإظهار الفرح والتشفّي بذلك، أو التشكيك في صدقية منكري جرائم الغوطة، مع إحالات دائمة على ما يجري في اليمن.
العقل الوثني اختزالي وتعميمي، فالأمور كلها لديه تؤول إلى الوثن، كما أن العالم كله عنده على صورة وثنية، بمعنى لا يمكن للوثني أن يتخيل موقفا صادرا عن غير نزعة وثنية، كأن تكون ضد جرائم النظام السوري في سوريا، وضد جرائم السعودية والإمارات في اليمن، دون أن تصطف إلى جانب الحوثيين، ودون أن تلزمك مواقف خصوم النظام السوري، السوريين منهم وغير السوريين، في شيء.
هو غير قادر على تصور ذلك أبدا، وهو يتخيل دائما أن السيولة في القيم والمفاهيم التي يعانيها موجودة لدى مخالفيه بالقدر نفسه، فمفهوم الضحية لديه يتغير بحسب الموقف السياسي، ولا يملك هذا المفهوم لديه أي عناصر تعريف داخلية تمنحه ثباتا نسبيا، لاسيما ونحن نتحدث عن عرب ومسلمين وصراعات أهلية، ولكن السردية الكبرى تجعل كل فرد في الطرف المقابل -كائنا سياسيا أو كائنا أيديولوجيا- يستحق السحق، حتى لو كان طفلا، فالجميع يجري تعريفه، بالمؤامرة الكونية، والعمالة للإمبريالية الأميركية.
ولأنّك ضد جرائم النظام وحلفائه في الغوطة، فيجب أن تُعيّر بمواقف خصوم النظام كلهم، بعد أن يوضعوا كلهم في سلة واحدة على ما بينهم من تنافر، مع أنك قد تتخذ مسافة نقدية من كل خصوم النظام السوري، وقد لا تكون متحمسا للثورة السورية لتقدير سياسي، دون أن تنكر عدالة مطالبها، ودون أن يعني هذا اصطفافا ضروريا إلى جانب أيّ من فاعليها، فعدالة القضية -أيّ قضية- لا تتعلق حصرا بمظاهرها، وما يمكن أن ينجم عنها.
لقد طُرح من أنصار النظام وحلفائه سؤال دائم يخيّر مخالفيهم ما بين داعش والنظام، ومع أن هذا السؤال ينطوي على نفي لأي سياق طبيعي للاحتجاجات الأولى في سوريا، وعلى أيّ مطالب عادلة من الممكن أن يواجه بها النظام، ويختزل كل الفاعلين ضد النظام في داعش، وهذه كلها مغالطات فاحشة، لكن ومع ذلك، فإنّه -حتى لو كانت الصورة على النحو الذي يقدّمه السؤال- يسعك ألا تكون مع أيّ منهما، أو أن تكون مع عدالة مطالب ملايين السوريين الذين خرجوا على النظام، دون اصطفاف إلى جانب الفصائل المسلحة، وهذا بصرف النظر عن النقاش الواجب حول مسؤولية الدولة، وقدرتها على انتهاج التوحش بالنسبة لخصومها والخارجين عليها!
لقد أقرّ بشار الأسد نفسه بوجود ملايين السوريين المعارضين له، حينما تحدث عن البيئات والحواضن الاجتماعية التي خرج منها المقاتلون، وعن فوائد الحرب في خلق مجتمع سوري متجانس، وقبوله لعمليات الإجلاء والتبادل السكاني، هل يمكن أن يكون كل هؤلاء الملايين "إرهابيين" يستحقون القتل والحرق صغيرهم وكبيرهم؟ وهل يعقل ألا يكون لكل هؤلاء مطالب عادلة لم يحسن النظام وحلفاؤه معالجتها؟! وهل ينبغي أن يعاقب كل هؤلاء بالنفي، أو بالإبادة الشاملة لمجرد وجود المقاتلين بينهم؟!
إنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أفراد الناس الذين نناقشهم ونقرأ كتاباتهم من مؤيدي النظام وحلفائه، لا على الفاعلين المنخرطين مباشرة في الصراع هو "هل يمكنهم اتخاذ موقف مؤيد للنظام وحلفائه؛ مع اتخاذ مسافة نقدية من النظام وحلفائه، والاحتفاظ بخط أخلاقي -ولو في حدود دنيا- يلاحظ على الأقل الجريمة حال وقوعها ولا يدافع عنها ولا يشكك في وقوعها؟! أم أنّ هذا لا يليق بهم، ولا يسعهم إلا السؤال عن الموقف السياسي للحم الطفل المشويّ في الغوطة؟!
أضف تعليقك