كل ما قيل ويقال عن ثورة 25 يناير فإنها تظل من اعظم احداث هذا القرن السياسية في العالم العربي وربما في ما هو أبعد منه. ليس هناك حدث يضاهي في زخمه وقوة تأثيره حجم الثورة المصرية العظيمة. فقد نجح ذلك التدفق الجماهيري الهائل على ميدان التحرير وسائر ميادين مصر الكبرى في فرض تنحي مبارك بعد طول عناد.
حينما تمكن التونسيون من إسقاط راس نظامهم يوم 14 يناير، تملك أشقاءهم المصريين شعور عارم بالابتهاج للتخلص من حاكم عربي مستبد، وحرقة على بقائهم تحت حكم حسني مبارك منذ 1981.
وقد تمكنت وسائل الاعلام الاجتماعي والفضائيات من نقل ما كان يجري في تونس بسرعة البرق وادخلت حدث الثورة الى كل بيت عربي، لتهز استقرارا زائفا قائما على قوة البطش والقهر.
واذا كانت الثورة التونسية قد انطلقت من مدن العمق بصورة عفوية ثم تحركت تدريجيا الى صفاقس، ثاني مدن البلاد ومنها إلى العاصمة تونس، فإنها ولدت في مصر في قلب القاهرة وكانت بالغة الحضور والكثافة في ميدان التحرير، ومنها امتدت الى بقية المدن المصرية الكبرى التي صنعت بدورها ميادين تحريرها من الاسكندرية الى الجيزة.
وخلافا للثورة التونسية التي بدأت بمطلبية اجتماعية تتعلق بالتنمية والتشغيل، ثم أخذت تدريجيا طابعا سياسيا أفرز شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فإنها في مصر ولدت منذ بدايتها مسكونة بمطلبية سياسية واضحة، ومن ثم انطلقت من حيث انتهت ثورة تونس.
كان شباب مصر المتعلم والواعي الذي انضمت اليه القوى السياسبة لاحقا، بمثابة الوقود المحرك لثورة 25 يناير، إذ جمع بين قوة التصميم وقدر عال من التسيس. ورغم محاولات رجالات مبارك والمجلس العسكري تقسيم صفه وتشتيته من خلال فتح قنوات حوار مخاتلة، بالتوازي مع استخدام العنف والترويع لفض اعتصام ميدان التحرير، الا انه حافظ على تماسكه ووحدة هدفه: رحيل نظام مبارك.
وكانت أشهر المنازلات التي استبسل فيها شباب مصر وصمد تلك المعروفة بواقعة الجمل، حيث اطلق مبارك جيشا من البلطجية الهمج وهم يمتطون الجمال ويحملون السيوف والعصي لتفريق المعتصمين، ولكنه فشل في تحقيق مراميه وبقي الشباب متجلدا مرابطا الى ان وصل مبتغاه بتلاوة عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز المخابرات سابقا، بيانه الشهير معلنا "ان الرئيس محمد حسني مبارك قرر التنحي عن السلطة".
الحقيقة ان الانقلاب على الثورة المصرية بدأ منذ اليوم الاول للثورة نفسها، عبر ترويج مقولة مضللة مفاده انها ثورة الجيش والشعب معا، ثم بتولي المجلس العسكري المرحلة الانتقالية مباشرة بعد ازاحة مبارك.
وحتى حينما اضطر الجيش للذهاب للانتخابات في شهر مايو 2012، تبين ان الامر مجرد توزيع تكتيكي للسلطة داخل منظومة الحكم القديمة أتاح للعساكر أن يحكموا قبضتهم على كل مفاصل الحكم، حتى وإن اضطروا للتواري حينا في الصفوف الخلفية.
بل ان الجيش المصري نظر لثورة 25 يناير باعتبارها فرصة ذهبية لإعادة التموقع بعد التخلص من رأس النظام الذي بات عبئا عليه..
وفِي الوقت الذي كان من المفترض ان تمضي القوى السياسية والثورية في توحيد جبهتها الداخلية لضمان نقل السلطة الى المدنيين وعودة العساكر الى ثكناتهم، انشغلت بالصراع على الحكم واستنزفت طاقتها في لعبة الاصطفاف الانتخابي.
وازداد الامر تعقيدا في ظل الاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين واتساع الهوة بين الشباب الثوري والقوة الاسلامية التقليدية ممثلة في الاخوان المسلمين.
لم يكن الذهاب للانتخابات خطأ في حد ذاته، لكن التوجه اليها تحت وصاية العساكر وضمن المربع الذي رسمه الجيش، مع مشاحنات السياسيين وتطاحنهم، اصاب ثورة مصر في مقتل. وقد تبين فيما بعد ان الحبل الذي ارخاه الجيش بعض الشيء تحت ضغط الشارع الثائر والزخم الجماهيري الهائل أخذ يشده تدريجيا الى ان أحكم الخناق على الثورة كليا بانقلاب مكتمل الأركان نفذه يوم 3 يوليو 2013.
ولم يكن هذا انقلاب الا امتدادا تراكميا للانقلاب المصغر الذي تحقق بإعلان المجلس العسكري توليه مقاليد الحكم بعد ازاحة مبارك.
اليوم وقد طوقت الثورة المضادة ثورة 25 يناير وطمست معالمها وحاصرت الشعب المصري بآلة متوحشة يقودها عسكري جلف، نسأل: ما الذي بقي حيّا من ثورة 25 يناير؟ وهل صحيح ان ما سميت زورا بثورة 30 يونيو قد جبت ثورة 25 يناير الى غير رجعة؟
المتأمل في المشهد المصري، يصعق للصورة القاتمة التي تطالعه من كل جانب، فتبدو حقبة مبارك أشبه بعصر ذهبي مفقود. ومع ذلك فان ثورة 25 يناير لا زالت حية متقدة في وجدان قطاعات واسعة من المصريين الذين جربوا الحرية وخبروا قدرتهم على تخطي حاجز الخوف والرهبة وأدركوا أنهم قادرون على قلب المعادلة على مستبد كانوا يحسبونه فرعونا جديدا فتبين أنه محض نمر من ورق..
صحيح ان الأمور قد انتكست الى حد بعيد، لكن على صعيد الوعي الفردي والجماعي لم يعد من الممكن الرجوع الى المربع الاول، فقد أدخلت ثورة 25 يناير ديناميكية جديدة في الواقع المصري والعربي، رغم شراسة المقاومة من الجيش والقوى المضادة للثورة. وآجلا او عاجلا سيترجم هذا الوعي السياسي الجديد وهذه الجرأة على الدكتاتورية الى فعل واقعي على الميدان.
لن تستطيع الثورة المضادة، مهما بلغت من شراسة وقدرة على التضليل، تعطيل ضرورات التاريخ. لقد توقفت ثورة 25 يناير في منتصف الطريق، مذ قبلت بكذبة "الجيش والشعب ايد وحدة"، وبات الجميع اليوم يدرك ان لا مفر من استكمال الحلقة المفقودة: تسليم السلطة لقوى مدنية تعبر عن إرادة الشعب وعودة الجيش الى ثكناته. ولن يستطيع انقلاب 3 يونيو، مهما بطش وتجبر وأسال من دماء، ايقاف هذه الوجهة المستقبلية لمصر وكل العالم العربي.
أضف تعليقك